ذ. أحمد حسني
جاءت الرسالة المحمدية بعد موكب طويل من الرسل أبلغوا رسالات ربهم إلى أقوامهم. قال الله تعالى : {ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه}(المومنون : 44). فمنهم من يؤمن بهؤلاء الرسل وهم قليل، ومنهم من يكذب بهؤلاء الرسل وهم كثير.
ومضت فترة غلبت فيها الشهوات على الإنسان، وانطمست النفس اللوامة، ففسد الفرد وفسد المجتمع.
وحين تنطمس النفس اللوامة لغلبة الشهوات، وحين يفسد المجتمع، ولا توجد طائفة تأخذ بيد النفس اللوامة، فإن السماء تتدخل بإرسال رسول جديد وكان هذا الرسول هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فكان ـ بحق ـ مسك الختام للأنبياء والمرسلين، جاء وأعلن الدعوة إلى الله تعالى بمكة المكرمة لأن فيها بيت الله الحرام والكعبة المشرفة.
ما أجمل أن يلتقي المسلمون على ذكرى المناسبات الإسلامية المباركة في كل عام، فإن عطاء الأحداث في الإسلام ليس مناسبة تحيا وتمر بمرور الزمان، وبخاصة مناسبة ذكرى الهجرة النبوية.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة لأنه كره مقامه بها، بل إنه قال وهو يغادرها “ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك”(الترمذي).
ولكن العجيب أن النصرة لم تكن في مكة، وجاءت في المدينة المنورة، حيث انطلق منها نور الإسلام، وشاءت حكمة الله تعالى أن يجعل مبدأ الدعوة في مكة، وجعل النصرة في المدينة المنورة حتى لا يقال إن أهل محمد صلى الله عليه وسلم في مكة جاءوا برجل ليفرضوه على الناس.
ونلاحظ في هذه الهجرة أمورا عجيبة لا يمكن أن تجعلها من تخطيط البشر، فالرسول صلى الله عليه وسلم هاجر إلى الطائف قبل هجرته إلى المدينة المنورة يحدوه الأمل في هداية ثقيف ويطلب النصير فعاد كسير النفس، وقد أفرغ شحنة رجائه في نصرة الخلق هناك، فلجأ إلى الله وحده يقول : “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا ارحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي” (الطبراني).
أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لتكون مهاجرا آمنا، وهو الذي لم يقرأ تاريخ الشعوب، ولا اطلع على سياستها، ولكنه قال لأصحابه “إن فيها مَلِكا لا يُظلم عنده أحد” وصدق الواقع رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيدا بأنه{لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}(النجم : 3- 4).
ثم أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية، وكان يأخذ البيعة لله، ويعطي ثمنها الجنة للذين بايعوه، ثمنا آجلا لا عاجلا، فكانت البيعتان إمدادا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استنفذ أسباب البشر وانكسر في الطائف.
لقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة التي هي دعوة الله على قومه بمكة، فمنهم من استقبلها بعقل وفكر وأناة، ومنهم من رماه بالجنون ولا يتصور أن يكون الإنسان الذي في خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمته وصدقه وأمانته من المجانين، ومنهم من قال إنه ساحر، ولو كان كذلك لسحر أعداءه فآمنوا به جميعا، ولم يكفروا بما جاء به، ومنهم من قال، كما قال قوم نوح لنوح عليه السلام. {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي}(هود: 27)
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لتصحيح مسار أهل الأرض جميعا وإخراج الناس من مرادهم إلى مراد الله تعالى، لقد حل الرسول صلى الله عليه وسلم مشكلات البشرية الثلاثة : الشورى، والعدل الاجتماعي، والإخاء البشري، وقضى على الصراع الطبقي والعنصرية، فأسس أسلوب الرحمة والكرامة أساسا للتعامل الاجتماعي، ولا يزال ذلك التراث بين يدي المسلمين حيا نابضا بالحياة قادرا على العطاء.
فقد تنازل الأنصار بالمدينة المنورة للمهاجرين عن نصف أموالهم اختيارا لا إجبارا، وتقاسموا ما عندهم طواعية، بل إن بعض المهاجرين رفض قبول مقاسمة أخيه الأنصاري فيما عنده، كما فعل الصحابي عبد الرحمان بن عوف رضي الله عنه الذي اعتذر لأخيه الأنصاري سعد بن الربيع عن قبول عرضه فقال له : “دلني على السوق”.
كانت الهجرة النبوية المباركة تربية للمؤمنين، كما كان الإسراء من قبل -وهو مخالف لنواميس الكون- امتحانا للعقيدة، فمن لم تصح عقيدته لا حاجة للمسلمين به، ومن صحت عقيدته أصبح أهلا لهذه العقيدة وكان أول الذين صحت عقيدتهم سيدنا أبو بكر بن قحافة رضي الله عنه، الذي أخبره الناس بالإسراء، فقال قبل أن يلقى النبي محمدا صلى الله عليه وسلم : والله إن كان قد قال ذلك فقد صدق. وبذا أصبح أبو بكر أحق الناس بأن يكون رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، ولهذا لقب بالصديق. ونزل القرآن يقول : {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم}(التوبة : 40)