د. إدريس مولودي
رئيس المجاس العلمي المحلي للرشيدية
1- مقدمة :
لا تخفى أهمية القرآن الكريم؛ باعتباره الأصل الذي تبنى عليه كل الأصول التي يُستند إليها للتعليم والبيان والعمران؛ على مستوى الفرد والجماعة في كل مجال، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(النحل : 89).
فهو النور المبين السبيل إلى الله تعالى، والشفاء من الأسقام الحسية والمعنوية، والسبب في ارتقاء الأمة المسلمة مكان الشهادة والريادة والسيادة… ومن ثم فهو من أفضل وأجل ما تصرف فيه الجهود والأوقات والأموال..
وبما سلف وغيره نال تعليم القرآن ومعلم القرآن الرفعة ووسام الخيرية والشرف في الدنيا والآخرة، فعن عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ اللَّيْثِىُّ : أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ الْخُزَاعِىَّ لَقِىَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه بِعُسْفَانَ ، وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه اسْتَعْمَلَهُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ. فَسَلَّمَ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رضي الله عنه : مَنِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِى؟ فَقَالَ : اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمُ ابْنَ أَبْزَى. فَقَالَ عُمَرُ : مَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ فَقَالَ نَافِعٌ : مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. فَقَالَ عُمَرُ : وَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ :>إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ))(1)
وعن عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِى عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِىِّ عَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: >خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) . قَالَ وَأَقْرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِى إِمْرَةِ عُثْمَانَ حَتَّى كَانَ الْحَجَّاجُ ، قَالَ وَذَاكَ الَّذِى أَقْعَدَنِى مَقْعَدِى هَذَا(2).
وكما صرح بذلك أبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِىِّ فهذه الخيرية وهذه المكانة السامقة هي التي أقعدته لإقراء القرآن الكريم ما يقارب الأربعين سنة من خلافة عثمان إلى عصر الحجاج بن يوسف الثقفي.
والنصان صريحان في أن الرفعة والخيرية في الدنيا والآخرة مرهونتان بالجمع بين أمرين اثنين؛ تعلم القرآن الكريم وتعليمه؛ بين العلم والعمل.
وبهذه الرفعة والخيرية سيكون معلم القرآن مصدر خير كثير لمن يسمعه أو يتعلم عنه أو يجالسه … ومن ثم انشغلت مخلوقات كثيرة بالدعاء له :
عَنْ أَبِى أُمَامَةَ الْبَاهِلِىِّ رضي الله عنه قَالَ: .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: >إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِى جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ))(3).
وكل رجل أو امرأة هذه مهمته وهذه مكانته لا بد له من صفات ومقومات تؤهله ليكون من أهل القرآن أهل الله وخاصته الذين يحملون لواء القرآن وينشرونه..
والقيم والمقومات الأخلاقية مقصد الإنزال والإرسال ومقصد الشعائر عموما؛ من لوازم المعلم قبل الطالب… ومن ثم فهي اللحمة وحبل الوصال بين المعلم والطالب وسبيل النفوذ إلى عقل وقلبه الطالب…
2- الربانية جامع المقومات :
ملاك المقومات والصفات كلها صفة الربانية، والدليل والسبيل تهدينا إليه الآية النص من القرآن : {كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}(آل عمران : 79).
الربانية إجمالا :
فيها نسبة إلى الرب سبحانه فالمتصف بها هو المخلِص لله تعالى الموحد له قصدا ووجهة .. والمخلَص لله أيضا الذي بلغ المراتب العليا من العبودية لله تعالى.
والربانية أيضا من التربية، والرباني كما قال ابن عباس : يقال: ((الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ(((4). بمعنى التربية بالتدرج وحسب الطاقة ودرجة الإقبال …
وهذه الصفة العالية الغالية التي تجمع الجانب القلبي بالجانب السلوكي العملي والجانب العلمي المعرفي.. تدرك بالتعلم والتعليم للكتاب، كما صرحت بذلك الآية المنطلق.
ومعلم القرآن ينبغي أن يكون أحرص الناس وأسبقهم إلى الخيرات عاملا بمقتضى علمه بالقرآن قبل طالبه ومتعلمه.. ومحصلا القصد من تعلمه وتعليمه أي صفة الربانية جوهرها ولبها خشية الله تعالى، كما قال الله سبحانه: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الحشر : 21). وكما قال أيضا:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}(فاطر : 28).
والعالم بحق والفقيه بحق هو الذي لا يغيب عنه هذا القصد الجوهر، وهو الذي يمتد ببصره وسعيه نحوه، ومن ثم أنكر الرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم على من غاب عنه ذلك أو كاد من صحابته الكرام، فعن أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَخَصَ بِبَصَرِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ: ((هَذَا أَوَانُ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنْ النَّاسِ حَتَّى لَا يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ(( فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ: كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لَأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟(( قَالَ جُبَيْرٌ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قُلْتُ: أَلَا تَسْمَعُ إِلَى مَا يَقُولُ أَخُوكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ. قَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِنْ شِئْتَ لَأُحَدِّثَنَّكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنْ النَّاسِ؛ الْخُشُوعُ. يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَلَا تَرَى فِيهِ رَجُلًا خَاشِعًا(5).
إنه حديث رهيب يحذر من خطر يدهم المسلم دون شعور منه؛ فيختطف منه جوهر كسبه من قراءة وإقراء القرآن؛ الخشية والخشوع، وهو ما تعبر عنه لفظة ((اختلاس العلم((، فقد يكون المرء وعاء مملوء بالمحفوظ من النصوص والمعلومات والروايات، لكن لم تغن عنه شيئا بحيث لم تتجل على حاله تقوى الله وخشيته. كما قال عَبْدُ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه : ((لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ الْخَشْيَةُ))(6).
————-
1- أخرجه مُسْلِمٌ في صحيحه كتاب صلاة المسافرين بَابُ فَضْلِ مَنْ يَقُومُ بِالْقُرْآنِ، وَيُعَلِّمُهُ، وَفَضْلِ مَنْ تَعَلَّمَ حِكْمَةً مِنْ فِقْهٍ، أَوْ غَيْرِهِ فَعَمِلَ بِهَا وَعَلَّمَهَا. الحديث رقم 817.
2- أخرجه البخاري في صحيحه كتاب قضائل القرآن باب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ الحديث رقم 5027.
3- أخرجه الترمذي في السنن بَاب مَا جَاءَ فِي فَضْلِ الْفِقْهِ عَلَى الْعِبَادَةِ، الحديث رقم 2685، وقال الألباني: (صحيح) انظر حديث رقم1838في صحيح الجامع.
4- أخرجه البخاري في صحيحه كتاب العلم باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.
5- أخرجه الترمذى في سننه بَابُ مَا جَاءَ فِي ذَهَابِ العِلْمِ الحديث رقم 2653. وقال الشيخ الألباني : (صحيح ) انظر حديث رقم : 6990 في صحيح الجامع
6- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 131).