دة. فريدة زمرد
البصيرة من البصر، ومادة (ب ص ر) في اللغة مدارها على معنى: العلم بالشيء، يقال فلان بصير بالشيء: أي عليم به، وقيل البصيرة: البرهان، وهو من الوضوح.
وفي القرآن الكريم ورد من مادة (ب ص ر) الكثير من المشتقات، منها الفعل (بَصُرَ) و(أبصر) و(بصَّر)، ومنها الاسم (البصر) و(الأبصار) و(البصيرة) و(البصائر) و(التبصرة)، ومنها اسم الفاعل (مبصر) و(مستبصر)، و(بصير)/والحق أننا لا نستطيع تبين مفهوم البصيرة إلا ببيان باقي الألفاظ والمشتقات، نظرا لما يوجد بينها من تعالق مفهومي فضلا عن التعالق الاشتقاقي، وأول ما يلاحظ في استعمال القرآن الكريم للفظ البصر وما يتفرع عنه أنه يستعمله بمعنييه الحسي والعقلي، فالبصر والإبصار قد يدل على الحاسة المعروفة وهنا يستعمل لفظ البصر والأبصار كما قد يدل على الإدراك بالقلب أو العقل لما يبصره الإنسان بعينه أو يحسه بفؤاده، وحين يكون الأمر كذلك يستعمل القرآن الكريم لفظ البصيرة والبصائر. لكن هذه القاعدة الاستعمالية كما أشرنا ليست مطردة، فقد جاءت الآيات صريحة في استعمال البصر والأبصار لغير الحاسة المرتبطة بالجارحة، كما في قوله: {أَفَرَاَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}(الجاثية : 22)، فالبصر هنا ليس حسيا والغشاوة ليست حسية، وهو ما صرحت به الآية الكريمة بوضوح أكثر: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْاَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ اَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْاَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور}(الحج : 44).
وقد أشار الراغب في مفرداته إلى هذا المعنى حين قال: (البصر يقال للجارحة الناظرة نحو: (كلمح البصر وإذ زاغت الأبصار) وللقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر).
وعلى العموم فإن لفظ “البصيرة” وجمعه “بصائر” لم يستعمل في القرآن الكريم للدلالة على الرؤية الحسية، وإنما دل على رؤية القلب، وعلى إدراك بواطن الأمور وليس مجرد النظر إلى ظواهرها، بل إنه دل على مستويات متعددة من هذا الإدراك ترجمها المفسرون باليقين والحجة والبرهان والعلم والهدى والحق حين وقفوا عند قوله عز وجل {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ اَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(يوسف : 108)، ومما يؤكد صحة هذه المعاني الإشارة إلى الوحي بلفظ بصائر في قوله عز وجل: {وَإِذَا لَمْ تَاَتِهِم بِئايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ اِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(الأعراف : 203)، وهذا يعني أن الوحي هو مصدر البصائر والجامع لها، وإنما كان ذلك كذلك؛ لأن الوحي في حقيقته حجة وبيان، وهي من المعاني الأساسية للفظ البصيرة في القرآن الكريم.
إن بلوغ الإنسان مرتبة البصيرة لا يكون إلا بأسباب تعينه على ذلك وهي مجملة في أمرين: الوحي والكون، فالوحي كما أشرنا مصدر البصائر: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ}(الجاثية : 19).
أما الكون فقد جعل وسيلة لاعتبار أولي الأبصار تلازم الوسيلة الأولى وتؤازرها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اليْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْاَبْصَارِ}(النور : 42)، (أَوَلَمْ يَرَوْا اََنا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَاَكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ}(السجدة : 27). ويدخل ضمن هذا العامل المرتبط بالكون: النظر في السنن الإلهية التي تحكم الخلق كسنن النصر والهزيمة التي تشير إليها الآية الكريمة وهي تحث أولي الأبصار للاعتبار بها: {قَدْ كَانَ لَكُمْ اَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ تَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الاَبْصَارِ}(ال عمران : 13).
لكن الإنسان متى ابتعد عن الوحي مصدر الهداية ومنبع الإيمان وأعرض عن آيات الكون وسننه، تعطلت بصيرته، وإن اشتغل بصره: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}(الاعراف : 198).