د. حسن الآمراني
المقصد الاقتصادي :
كان لي جار يوم كنت أستاذا بالمدينة المنورة، وهو عامل عربي، كان أحد حراس العمارة، وكنا في بعض الجلسات نتبادل أطراف الحديث في حوار أخوي حميم: قال لي ذات يوم إنه سيعود إلى بلاده ويفتح محلا تجاريا، فلا يكون لأحد عليه بد. فسألته عن نوع التجارة التي ينوي ممارستها، فقال بلا تردد: إما مطعم وإما محل لبيع الملابس. فسألته: ((ولم وقع اختياره على هذين النوعين التجاريين بالضبط؟ وما العلاقة بينهما؟ فأجاب على الفور: ((كل الناس تأكل، وكل الناس تلبس)). وتأملت فوجدته قد نطق بالحق، فكل التجارات الأخرى قد تحتاجها طائفة دون طائفة، أو تحتاجها كل الطوائف ولكن في فترات معينة. أما الطعام واللباس فهما يلازمان كل إنسان في كل زمان وفي كل مكان. وهذه هي الحقيقة التي نطق بها الله تعالى منذ الأزل، إذ خاطب آدم قائلا: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى}(طه: 118). فاقترنت نعم الطعام بنعمة اللباس، ولم يقل تعالى: {إنك لا تجوع فيها ولا تعرى} بل قال سبحانه من حكيم: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى}. وعبارة {إن لك} تدل على أنها منة من عند الله تعالى، ووعد منه لآدم. فحاجة الإنسان للباس كحاجته للطعام، وإذا كان بعضهم يدين ((صناعة الجوع)) فإن لنا أن تستنكر أيضا ((صناعة العري)). والاقتصاد العالمي يقوم بشكل أساسي على هذين الصنفين: الغذاء والكساء. كل شيء مخلوق مكسوّ فطرة، من الحيوان والطير والنبات، فكيف نحرم الإنسان الذي كرمه الله عز وجل من حقه في الكساء؟
وإن عجلة الاقتصاد التي لا تتوقف أبدا تجعل من اللباس أحد أهم محركاتها، وبدورانها يتحقق الطعام لكل فم، واللباس لكل جسد.
يقول توماس كارلايل، ونحن ما نفتأ نستشهد بأقواله لأنه أحد أهم من عالج موضوع الملابس، في كتابه: (فلسفة الملابس41): ((أليس من العجب الطريف أن نرى خمسة ملايين قنطار من الخرق تلتقط من المزابل كل عام، بعد أن تمزق وتكبس وتذاب، وتهيأ ورقاً وتطبع وتباع، تعود إلى المزبلة مرة أخرى، فتكون في أثناء هذا الطوفان، قد أطعمت ألوافا من البطون الجائعة)).
هذا العدد من الملايين يناسب عصر كالرلايل، فكيف لو عاش في عصرنا هذا؟ أن الرقم دون شك سيصير أضعافاً مضاعفة.
هذه معامل النسيج لا تفتر أبدا عن الحركة، فيتحرك بحركتها دولاب الاقتصاد، وتتحرك معها مجموعة من الصناعات والحرف الأخرى، من الرفاء إلى الصباغ إلى الكواء…
وتنشط الأيدي العاملة في حرف أخرى، ليتحقق قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}(الزخرف: 32). أي ليكون بعضهم مسخرا لخدمة بعض.
ومعلوم أن التنافس الاقتصادي بين الأمم على أشده، ويؤثر بعضهم أن يتحدث عن “الحرب الاقتصادية”، وينقل إليه جميع مصطلحات الحرب، فهذا حصار اقتصادي، وهذا هجوم اقتصادي، وهذه وقاية اقتصادية، وهكذا… وكان الاقتصاد باباً من أبواب مد جسور التلاقح الاقتصادي، أو وجها من أوجه التدمير، ويكون اللباس في قلب هذا الخضم الاقتصادي، ونحن نعلم على سبيل المثال ما تصنعه سراويل (الجينز) من ثورة اجتماعية، لا تمس الاقتصاد وعلاقات الإنتاج فحسب، بل تمس أيضا منظور القيم وميزان الأخلاق… وقد أصدرت دار النشر الفرنسية ((مشال لافون)) كتابا حول تاريخ “البنطلون الجينز” بعنوان ((أسطورة البنطلون الجينز))، من إعداد كل من (جيل لوت) و(بياتريس نوفو). وهو يقدم أول بنطلون جينز، ماركة ((البكايز)) منذ 150 عاما، صممه شاب من إقليم بافاريا، ليرتديه الباحثون عن الذهب، ثم أثبت أنه أفضل رداء للعمل على سطح الأرض، ويضم الكتاب صورا لعاشقي ارتداء الجينز من الفنانين والمطربين وغيرهم، (ينظر: جريدة أخبار الأدب العدد 549، الأحد 25 من ذي القعدة 1424 هـ، الموافق 18 من يناير 2004).
وقد كان منطلق معركة غاندي التحررية كما رأينا هو (المغزل)، بما له من دلالة اقتصادية واجتماعية وروحية. وعندما رفع شعار: (نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع)، في وجه أكبر إمبراطورية آنذاك، بريطانيا، كانت تلك قاصمة الظهر لهذه الامبراطورية، حيث إن الاقتصاد كان هو (حصان طروادة) الذي ركبته بريطانيا، سبيلا إلى نشر ثقافتها وقيمها، وبسط هيمنتها على القارة الهندية، فلما عرف غاندي كيف يشل حركة العجلة الاقتصادية، بإعلانه الاكتفاء الذاتي، بهذه الوسيلة البسيطة المتمثلة في مغزل (الملبس) وعنزة (المطعم)، لم يبق أمام دهاقنة الاستعمار البريطاني إلا أن يشدوا أحزمة حقائبهم وأن يرحلوا نهائيا عن درة التاج البريطاني: الهند.
وقد تقصى الدكتور محمد إبراهم في كتابه الآنف الذكر عن تطور الملابس في المجتمع المصري، موضوع الملابس والحياة الاقتصادية، فتحدث عن خامات المنسوجات، من الكتان إلى القطن إلى الصوف إلى الحرير، وعن مراكز صناعة المنسوجات، وعن دور الطراز، مثل دار الكسوة، ودار الديباج، وعن صناعة الملابس وأثرها في تطور المجتمع، وعن تجارة المنسوجات وألوانها، فليرجع إليه من يرغب في التوسع في هذا الباب.
ولن نغلق هذا الباب دون الإشارة إلى العلاقة بين الاقتصاد والقيم، في ميدان الملابس، وكيف يكون الانتصار للاقتصاد على القيم أحيانا ، إيذانا بالانهيار، والمطلوب هو التوازن بين هذا وذاك.
ويعرف المهتمون موقف زعيم ثورة الصين ما وتسي تونغ من اللباس، حيث أعلن انتصاره لموضة (الميني جيب)، لا لشيء إلا لأن هذا اللباس في نظره يمثل نوعا من التقشف والاقتصاد في القماش، وماعلم أن موضة (الميني جيب) لم تكن ضرباً للقيم والأخلاق فقط، بل كانت ضرباً للاقتصاد أيضا، حيث كان هذا اللباس باباً لقبول نمط المجتمع الاستهلاكي الغربي، فإذا كانت (الميني جيب) تمثل نوعاً من الاقتصاد في القماش، فإنها فتحت باب تحويل المرأة إلى سلعة، عليها أن تستهلك كل أدوات الزينة الظاهرة، من أحمر الشفاه إلى أحمر الأظافر، إلى غير ذلك مما تحتاج إليه المرأة المتبرجة التي نسيت جمالها الباطني الذي يجعلها درة على الرؤوس: (ولباس التقوى ذلك خير)، وحولها إلى دمية تستهوي الناظرين من الفسقة والفجار.
وقد نظر الإسلام إلى زينة الملابس نظرة اعتدال، في غير ما سرف ولا مخيلة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}(الأعراف: 32)، وقد رأينا من قبل كيف أقر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذي سأل عن الثياب الحسن والنعل الحسن، فاعتبر \ ذلك من مظاهر الجمال: ((إن الله جميل يحب الجمال))، ولكنه نهى عن الإسراف في زينة اللباس، كما نهى عن الإسراف في كل شيء. قال تعالى: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}(الأنعام: 141- الأعراف: 31). وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير ما إسراف ولا مخيلة))(صحيح البخاري: كتاب اللباس).
وعن البراء رضي الله عنه قال : ((نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، والديباج، والقسّي، والاستبرق، والمياثر الحمر)).
والديباج والاستبرق صنفان نفيسان من الحرير، وأما المياثر فهي جمع ميثرة…كانت من مراكب العجم من ديباج وحرير. وقال الطبري: هي وعاء يوضع على سَرْج الفرس أو رحل البعيرة من الأرجوان. وحكى في (المشارق) قولاً أنها سروج من ديباج، وقولاً إنها أغشية للسروج من حرير، وقولا إنها تشبه المخدة تحشى بقطن أو ريش يجعلها الراكب تحته، وهذا يوافق تفسير الطبري (فتح الباري: 10/307) ومن شأن إسراف الرجل في اللباس أن يبعث الوهن في روحه وفي جسده، والأمة بحاجة إلى رجال، لا إلى مخنثين. والتخنث مدعاة إلى الكسل والبطالة والضعف عن الإنتاج، وكل ذلك مما يؤدي إلى انهيار القيم وانهيار الاقتصاد على السواء. وقديما قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجد
مفسدة للمرء أي مفسده
والحياء من أعلى القيم وأغلاها. ولكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء. ولو نظرنا إلى دور الأزياء لوجدنا أن الزينة التي تطلبها إنما يراد منها هدم الحياء. فلذلك شاعت مظاهر (الكاسيات العاريات المائلات المميلات).
يقول كارلايل: ((الملابس هي المصدر والمنشأ لفضيلة الحياء، ذلك الهيكل الظليل المحجب الذي يضم بين جوانحه كل مقدّس في الإنسان)) ص. 38 م.م.
والخلاصة أنه عندما تختل القيم تقلب الموازين ويضطرب كل شيء. هل يستطيع أن يزعم زاعم أن العراة، وأشباه العراة، من الشعوب البدائية، هم أحسن حالاً في اقتصادهم من غيرهم؟ ذلك ما لا يقول به عاقل منصف. إن فلسفة العري تعطيل للإنتاج، وهي خراب اقتصادي، فضلا عن الخراب الروحي الخطير.