391 مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء والاستغفار وأثرهما في إصلاح الفرد والمجتمع
. لخضر بوعلي
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى :((يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا أبن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا للقيتك بقرابها مغفرة))(1)
إن هذا الحديث القدسي يخبر الكريم من خلاله عن أهمية الدعاء والرجاء والاستغفار والإخلاص كأفعال يأتيها ابن آدم إلى جانب أهمية المغفرة التي ينبغي أن تكون هدفا يتغيّاه والتي يمنّ بها الغفار سبحانه.
إن الدعاء عبادة يعبر العبد من خلالها عن التواضع للرب الكبير المتعال جل جلاله لقوله تعالى : {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}(غافر : 60).
والعبد عندما يدعو الله تعالى ويتضرع إليه ويرفع إليه حاجاته وحاجات من يهمه أمره، ويلوذ به من كل مكروه واقع أو متوقع، يكون في الوضع الطبيعي للعبد، ويعبر عن حقائق لا حصر لها من أهمها:
- تعبيره عن الفقر والعجز واعترافه به
- توجيه الفقر -أي الافتقار- على ما ينفع عنده هذا الافتقار ولا ينتفع به لغناه المطلق.
- استغناؤه عن الخلق أجمعين لأنه وإياهم في الافتقار إلى الله سواء. قال تعالى : {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}(فاطر : 15).
- إن الدعاء هو تعبير عن العلم بحقيقة الذات وما يعتوِرها من الفقر المستمر، كما أنه تعبير عن العلم بخالق هذه الذات وما يتصف به من الغنى والكرم.
ومن هنا تظهر أهمية الصيغة التي ورد بها ذكر الدعاء والتي تفيد الاستمرار وعدم الانقطاع : ((… إنك ما دعوتني…)),
إن الدعاء الذي يرفعه العبد إنما هو طلب من الله تعالى ما هو به أعلم، فالعليم لا ينتظر عبده “الجهول” ليخبره عن حاله وعن حاجته، لكن يحب أن يراه في هذا الموقع، ووجود العبد فيه توفيق من الله وفضل، أما ما يدعو به العبد فليس دائما صحيحا، فكم من عبد يسأل الله تعالى ما لا ينفعه بل يسأله ما يضره : {ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولاً…}(الاسراء : 11).
ومن العيب أن يقصر العبد دعاءه وضراعته على أمور دنيوية لأن فقره أعمّ وفضل الله أوسع.
ومن سوء الأدب مع الله تعالى أن يراقب العبد هذا الطلب، فإذا لم يتحقق بالشكل الذي قدمه وفي الوقت الذي حدده، ساء ظنه باعتقاده أن الله تعالى لم يفعل شيئا في موضوعه.
إن الرجاء في الله تعالى ينبغي أن يكون قرين الدعاء بل سابق عليه ودافع إليه.
ومهما كان الطلب في عين العبد عظيما وفي تقديره مستحيلا، فإن الله تعالى لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ومهما تأخرت الاستجابة فإن الله تعالى لا يهمل طلبات عباده {لا يضل ربي ولا ينسى}(طه : 51).
والرجاء من هذه الزاوية حسن ظن بالله دال على حسن العلم به سبحانه.
فهل يدرك العبد المؤمن هذه المعاني فيقترب من الكريم القائل : {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليومنوا بي لعلهم يرشدون}(البقرة : 185).
إن الأجزاء الثلاثة للحديث جاءت فيها جملة جواب الشرط تتحدث عن مغفرة الله تعالى للعبد، وإذا كان الجزء الثاني من الحديث فيه قوله تعالى : ((…ثم استغفرتني غفرت لك…)) أي طلبت مني المغفرة، فكان مفهوما أن تكون الاستجابة وفق الطلب أي مغفرة، لكن الجزء الأول فيه دعاء عام : ((إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك…)) دون تقييد الدعاء بطلب المغفرة، كما أن الجزء الثالث يفيد أن عدم الإشراك بالله تعالى يستوجب مغفرته… ومن هنا تظهر أهمية المغفرة وشدة حاجة الناس إليها وتوجيه الحديث لكل المؤمنين أن يجعلوا همتهم في طلبها
الحديث عن موضوع الدعاء ثم الرجاء وكل واحد منهما دال على العلم بالله من جهة.
قال تعالى : {ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها…}(الأعراف : 180),
فالمؤمن يدعو الله تعالى بما سمى به نفسه من هذه الأسماء، يفهم معناها، يلتزم مقتضاها ولا يتعداها ولا يتخطاها،
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لله تسعة وتسعون اسما من حفظها دخل الجنة وإن الله وتر يحب الوتر)). وفي رواية : ((إن لله تسعة وتسعين اسما ,مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة))(2).
وإشارة الحديثين الشريفين إلى الحفظ و الإحصاء لا يعني فقط استظهارها وإنما المقصود معرفتها والإيمان بها وفهم معناها والتخلق بها على قدر الطاقة البشرية والعمل على ما تقضيه هذه الأسماء فإذا كان الله تعالى رحيما وعليما وقادرا…فشأن المؤمن أن يتخلق بهذه الصفات وأن يحرص على طلب العلم النافع وأن يكون رحيما بخلق الله تعالى وأن يستعمل قدرته في خدمة الضعفاء ومن شأنه كذلك أن يؤثر علمه بهذه الأسماء في سلوكه فلا يأتي عملا محرما لأن الله تعالى يعلم ذلك ولا يهمّه أن يطّلع الناس على صالح أعماله مادام أن الله تعالى عليم به. كما أن قدرة الله تعالى المطلقة عندما يعلم بها فإنها تمنعه من الطغيان والاعتداء على غيره.
ومن هذا الأسماء التي يحتاج المؤمن إلى معرفتها والتي يركز هذا الحديث عليها هي صفة المغفرة وأن الكريم سمى نفسه الغافر كما في قوله تعالى : {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول}(غافر : 1) وسمى نفسه الغفور مبالغة منه سبحانه في المغفرة فقال جل شأنه: {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}(المزمل : 18) وسمى نفسه الغفار كما في قوله تعالى : {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى…}(طه : 80).
ثم إن الله الكريم لا يريد منا أن نخلد إلى الأرض بل يريد منا أن نرتقي إلى أعلى الدرجات وهذا بعض المراد من دعوة أهل الكتاب كما في قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله}(آل عمران : 63) وكذا في قوله : {…ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه…}(الأعراف : 176).
وقد أخبر الكريم أنه رفع بعض عباده الصالحين كرما وتفضلا قال تعالى : {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيئا ورفعناه مكانا عليا}(مريم : 56- 57) وقال عن إبراهيم عليه السلام : {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}(الأنعام : 84) وقال سبحانه عن يوسف : {نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم}(يوسف : 76). وقال تعالى في عموم الإنسان : {ورفع بعضكم فوق بعض درجات}(الأنعام : 167).
إن هذه الأخبار -وهي كثيرة في الذكر الحكيم- فيها تحفيز على السعي نحو العلى وارتقاء أعلى الدرجات.
وفي قوله تعالى : {… يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات…}(المجادلة : 11) تنبيه إلى بعض أسباب الارتقاء : الإيمان و العلم، ومن هذين السببين تخرج المغفرة كوسيلة للارتقاء، وهي أيضا من الأسباب التي نستجلب بها مغفرة الله فينبغي للمؤمن أن يكون غفورا : {ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟}(نور : 22).
إن المغفرة ليست تنازلا عن حق ولا عن كرامة كما يراها الكثير من الناس، بل هي التمسك بالحق ووضع حد للإساءة ولأثرها.
إن أخطأ شخص في حقك فاحذر أن تسبب مزيدا من الألم لنفسك بالتمسك بهذه الإساءة.
يعيِّـرك الشخص المسيء يقول لك مرة واحدة : “أنت كذا…” فتقولها أنت لنفسك عشر سنوات، فتجد أنك أسأت إلى نفسك أكثر مما أساء إليك غيرك.
إن الشخص الذي أساء في حقك يكون -في الغالب- قد نسيك وما عاد يفكر فيك وفي أمرك.
أما أنت فيستحوذ الأمر عليك لسنوات تتسبب فيها بألم شديد لشخص واحد هو أنت.
في الحقيقة أنت تحسن إلى نفسك عندما تساعدها على المغفرة لمن أساء إليك.
في الحياة العائلية -بين الزوجين أو بين الوالدين والأولاد- وبين العاملين في مكان واحد وبين الجيران.. وكل ما يتيح الاجتماع والخلطة… يتساءل الإنسان كم ينبغي له أن يغفر من مرة؟
والجواب أن تكون مغفرتك أكثر من أخطاء الآخرين ألا تسمع لقول الله تعالى وهو يقول : ((يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم…)) ويقول جل في علاه: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}(الزمر : 50).
لأن عدم المغفرة يجعل الإنسان يركز على تسجيل الأخطاء والاحتفاظ بها ورعايتها وتربيتها وتنميتها… بدلا من أن ننمي الكفاءات والمهارات في أنفسنا وفي أهلينا، نحن ننمي الأخطاء التي نحفظها للأقربين والآخرين، تتحول إلى أحقاد وضغائن سوداء تقطع الأرحام وتجعل الناس يعيشون في بحار من الآلام، وتتحول إلى عوائق وعقبات تمنع من الخير وتوظف الطاقات وتنفق الأموال والأوقات في المكر والخداع والدس…وليس سبيل المؤمنين من هذا في شيء : {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}(الأنعام : 55).
إن المرأة تغضب وتثور على زوجها كلما أخطأ في حقها وتذكره بكل الأخطاء التي ارتكبها في حقها منذ زواجهما…
ويغضب الأب من ابنه ويذكره يكل الأخطاء منذ كان صغيرا وكذلك الابن له مذكرة خاصة يحفظ فيها أخطاء أبيه ولكل فرد من محيطه مذكره خاصة…
إن الإنسان إذا تساءل : أين تحفظ كل هذه الأشياء القبيحة ؟ فإنه يدرك أنها كانت تحفظ في أعز مكان في جسده وهو قلبه، كان يحفظ هذه الأشياء في موضع نظر الله منه، كان يحفظها وكانت تنهش في صحته، وكلما أخطأ أحد الأقارب أضاف هذا الخطأ الجديد إلى لائحة من الأخطاء ظلت تنمو حتى صارت جبالا من المرارة والأحزان داخل القلوب… إن هذا الحديث القدسي العظيم يوجهنا إلى جانب من الخلق العظيم الذي ينبغي أن يتخلق به العبد المؤمن وهو المغفرة المستدامة.
إن من أهم ما يمنع المؤمن من المغفرة هو التركيز على ما يأتيه من العمل الصالح في مقابل التركيز على ما يرتكبه الآخر من الأخطاء، وإذا ما نظرنا إلى هذا المقياس في علاقتنا بربنا جل في علاه، لا نجده في صالحنا لو عاملنا الكريم به فقد قال : {…وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار…}(إبراهيم : 36) وقال : ((…يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار…)) ومع ذلك فقد قال لنا : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم}(الزمر : 50).
لا شك أن إحساننا إلى الناس مهما بلغ فهو دون إحسان الله إلينا وأخطاء الناس في حقنا مهما عظمت فهي أقل من أخطائنا في حق الله تعالى، فكيف نرجو أن يغفر الله لنا ولا نغفر لغيرنا؟
قال تعال : {ولا ياتل أولو الفضل منكم والسعة أن يوتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}(النور : 22).
————
1- رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
2- رواه مسلم.