393 مظاهر العناية بالقرآن الكريم، والجهات التي تسهر على تحفيظه بمدينة فاس
د. عبد الله غازيوي
الحمد لله رب العالمين، وبه أستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين معلم الخير للناس أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أتحدث في موضوع أعتبره من أهم المواضيع العلمية الشريفة، لأنه يتعلق بالحديث عن القرآن الكريم.
ولأن المرأة التي هداها الله سبحانه وتعالى إلى حفظ القرآن الكريم، والاهتمام بترتيله وتجويده والعمل به، والدعوة إلى نشره ومحاولة استنباته في كل أقطار المعمور عناية تستحق كل اهتمام وتقدير، وعلى سبيل المثال فهناك مجموعة من النساء انطلقن من هذه المدينة المباركة قصد تحفيظ القرآن الكريم، وفي الإمارات العربية المتحدة، وفي مصر العربية، وفي المملكة العربية السعودية… في حين قد ضل كثير من نساء العالم الإسلامي وغيره على حد سواء، في وقتنا الحاضر وقبله، نهج الوحي القويم، والطريق الصحيح المستقيم، وصرن يلهثن وراء كل بريق لماع كاذب خداع، مما يردده الغرب الكافر الغاشم، والشرق الملحد الخائن.
إن العناية بالقرآن الكريم تبتدئ منذ بدأ الوحي ينزل على قلب سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال الله في شأنه: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه}(طه : 111) وقال تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به}(القيامة:16).. وانتقلت العناية بالقرآن الكريم إلى من بعده من صحابته، فقد أقبل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على تعلم القرآن الكريم حفظا وفهما وعملا بصورة قد لا تتكرر في التاريخ، ومما دفعهم إلى حفظه والإقبال عليه، هو تشجيع النبي صلى الله عليه وسلم لهم على ذلك، ويظهر هذا من خلال ما يلي:
أولا- ورود أحاديث كثيرة تحث على حفظ القرآن وتعلمه وتدل عليه، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران(1).
2- عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب(2).
3- عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه(3).
ثانيا- ورود كثير من الأفعال من خلال سنته صلى الله عليه وسلم العملية التي تشير بصورة واضحة إلى منزلة ومكانة أهل القرآن العالية عند الله تعالى، ومنها:
أ- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفاضل بين الصحابة أحياء وأمواتا بما معهم من قرآن، فعنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ، وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ(4).
ب- عن ابن مسعود الأنصاري قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَةً، فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا تَؤُمَّنَّ الرَّجُلَ فِي أَهْلِهِ وَلَا فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا تَجْلِسْ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَكَ أَوْ بِإِذْنِهِ(5).
ج – وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الرجل الذي ليس معه ما يقدم في الصداق عند الزواج، ترغيبا للناس في حفظ القرآن، فقَالَ له: مَاذَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ؟ قَالَ مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّدَهَا فَقَالَ تَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ، قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآن(6).
قال ابن حجر: -رحمه الله- فدلَّ هذا على فضل القراءة عن ظهر قلب، لأنَّها أمكن في التوصُّل إلى التعليم(7).
ولذا تنافس الصحابة على حفظه وتلاوته، تاركين لذيذ النوم، وهاجرين دفء الفراش، وهجيع الليل، للقيام بتلاوته والتدبر لمعانيه التي هي أعظم ما يستمتع به أهل الإيمان في ليلهم، قال الله تعالى: {وبالاسحار هم يستغفرون}(الذاريات: 18). وقال تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون}(السجدة: 16). وقال تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه}(الزمر: 10).
ثالثا : هناك أسباب ودوافع أخرى للعناية بالقرآن الكريم، غير الذي ذكر، منها:
1- الاعتماد في الحفظ على الذاكرة الحافظة، وذلك لشيوع الأمية وقلة القراءة والكتابة، فتلك العلة جعلتهم يقبلون على الحفظ الشفهي المباشر بنهم وحب وشغف، وهي ميزة اختصوا بها.
2- منزلة القرآن العظيم في نفوسهم جعلتهم يقبلون على الاهتمام به إقبالا منقطع النظير، فكانوا يتنافسون في حفظ لفظه، ويتسابقون في فقه معناه.
3- المكانة الاجتماعية التي كان يتمتع بها حافظ القرآن الكريم، كانت حافزا لهم على الإقبال على حفظه، فالحافظ لسورة البقرة وسورة آل عمران، كان محل عناية وإجلال وإكبار في أعين القوم.
هذه بعض الإشارات العابرة، والنصوص الهادفة التي نعتقد أنها كافية للدلالة على مدى حب المسلمين للقرآن العظيم، منذ عصر الصحابة -رضي الله عنهم- الذين تلقوا هذا القرآن غضا طريا من فم سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريف، إلى يوم الناس هذا. ومعلوم عند الأجيال السابقة، أن العلم بالتعلم، لذا كانت العناية الكبرى والهمم العالية، توجه في كل قطر من أقطار العالم الإسلامي إلى إنشاء المدارس القرآنية، والمعاقل العلمية.
إن أول مدرسة في تاريخ الأمة الإسلامية هي دار الأرقم بن أبي الأرقم، حين كان سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس ليعلم الناس ما نزل عليه من القرآن، ثم بنيت بعد ذلك مدارس خاصة، لتعليم أبناء المؤمنين، وقد ذكر الشيخ النفراوي شارح رسالة ابن أبي زيد القيرواني -رحمه الله- أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من بنى مدرسة في الإسلام، وجمع فيها أولاد المؤمنين وشارط عامر بن عبد الله الخزاعي رضي الله عنه على رزق معلوم يأخذه من بيت المال ليلازمهم للتعليم، وأمره أن يكتب للبليد منهم ويلقن الفهيم(8).
وقد ازداد عدد الكتاتيب وعدد المعلمين في القرن الثاني الهجري والقرون التي بعده، حتى صار في كل قرية كتاب أو أكثر وقد أسهم كثير من المسلمين في إنشاء الكتاتيب لتعليم الأطفال، وتنافسوا في بنائها تقربا إلى الله ونشر التعليم بين الأغنياء والفقراء على السواء، وكانت الكتاتيب تلحق بالمساجد حينا، وتبعد عنها أحيانا أخرى، وكان بعض المعلمين يقومون بالتعليم بدون أجر ابتغاء مرضاة الله، وبعضهم يقبلون أجرا زهيدا حتى يحصلوا على الضروريات في الحياة..
فاستمرت هذه السنة الحميدة التي سنها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ثم بعده سيدنا عمر رضي الله عنه إلى أن عمت سائر بلاد العالم الإسلامي، ومنه بلدنا المغرب الحبيب، الذي استفاد ولله الحمد والمنة من هذه السنة، فأنشئت فيه منذ عهد قديم كتاتيب ومدارس لتحفيظ القرآن العظيم، وتعليم العلم النافع النفع العميم، فكانت كل مدينة وكل قرية ولو صغيرة قليلة العدد تحدث كتابها القرآني بداخل مسجدها، وتقوم بضرورياته على قدر وسعها(9).
وهكذا، فلم يغب عن ذهن الأمة الإسلامية مصطلح “الكتاب القرآني”، و”لمسيد” وما في معناه، مثل مصطلح “الخربيش” و”لمدرسة” و”المعمرة” التي تكون بجانب المسجد.
- ولم ولن تنس الأمة الإسلامية كذلك، الإنفاق على المؤسسات العلمية التي يقطن فيها كل من يريد أن ينقطع لحفظ كتاب الله تعالى، إما الإنفاق المباشر على طلبة القرآن الكريم، وهو ما يصطلح عليه بلفظ الرتبة أو المعروف، وهي وجبات الفطور والغداء والعشاء التي يجود بها المحسنون جزاهم الله خير الجزاء على حسن صنيعهم. وإما القيام بالتحبيس على تلك المؤسسات.
- وقد أدرك عقلاء هذه الأمة، أن هناك عوامل ومحفزات تشجع وتدعو إلى هذه العناية وهي:
1- تيقن الناس أن التلقيح الحقيقي لأبنائهم ضد الأمراض الفكرية والنفسية والخلقية والجسدية، هو بعثهم إلى الكتاتيب القرآنية في بداية أمرهم، ومنذ نعومة أظفارهم.
2- التشجيع الذي صار يحظى به كل من يهتم بحفظ كتاب الله تعالى، ومنه على المستوى الرسمي عناية أمير المؤمنين بكتاب الله تعالى، وذلك بتخصيص جوائز هامة لأهل القرآن وأهل الحديث وللكتاتيب القرآنية، سواء تعلق الأمر بالجوائز الوطنية أم بالجوائز الدولية.
3- اهتمام شرائح عريضة من المجتمع الإسلامي في المدن والأمصار بفتح كتاتيب قرآنية، ومؤسسات علمية، لتحفيظ كتاب الله تعالى للذكور والإناث وللصغار والكبار، مما نتج عنه في الآونة الأخيرة بفضل الله أولا، ثم بجهود المحسنين المخلصين، نهضة شاملة لحفظ القرآن الكريم، كانت حصة الأسد في الاستفادة منها للمرأة المسلمة، ووجود أكثر من مائتي حافظة وخاتمة في هذه المدينة العلمية العامرة، خير دليل على ما أقول.
4- الاهتمام الكبير من قبل المجالس العلمية ومندوبيات الشؤون الإسلامية في المملكة المغربية، وذلك عن طريق تنظيم المسابقات في الحفظ والتجويد والتفسير المحلية والوطنية والدولية ورصد جوائز هامة لذلك.
إن المجهودات الجبارة التي تقوم بها كل الفعاليات في مدينة فاس، له جذوره التاريخية، مذ دخول الإسلام إلى يومنا هذا، فقد وجدت – بحمد الله – مجالس كثيرة للإقراء والتحفيظ منذ القديم، منها:
1- جامع القرويين وروافده التابعة له في فاس وغيرها.
2- مدرسة محمد بن عبد الله.
3- مدرسة النجاح المختلطة التي أنشأها حزب الاستقلال وكانت وقتئذ تابعة للقرويين كما كانت تعنى بتدريس ما بعد الشهادة التكميلية.
4- مجلس الشيخ الحاج المكي بن كيران -رحمه الله- الذي خصصه للقراآت القرآنية في رحاب جامع القرويين وفي منزله وفي الحرمين الشريفين.
5- مجالس الشيخ المفضل فلواتي -رحمه الله- المتعدده، التي كانت تعنى بالمرأة خاصة.
6- مدرسة الشيخ عبد العزيز القصار -حفظه الله- الذي عني فيها أيضا بجانب المرأة أكثر من جانب الرجل وهو -وفقه الله- يدرك المقصود من ذلك ولا شك.
7- مدرسة الشيخ أحمد النجاري -رحمه الله- فقد أبلى البلاء الحسن في العناية بكتاب الله تعالى في الصيف.
8- الكتاتيب القرآنية التابعة لجمعية العمل الاجتماعي والثقافي، وهي كثيرة جدا.
9- كتاب السعادة الذي يلقب الآن بجمعية القاضي عياض، بحي النور.
10- جمعية المسيرة للثقافة القرآنية، بحي الزهور 1.
11- ملحقة جمعية العمل الاجتماعي بمسجد الفتح، بحي الزهور 1.
12- جمعية الإمام ورش، بعين هارون.
13- جمعية الرشاد بحي النرجس.
14- كتاب مسجد أم المؤمنين حفصة – رضي الله عنها بحي الزهور 1.
15- كتاب مسجد السلام، بحي الزهور2.
16- المدرسة الحسنية، بالحي الجامعي.
17- مدرسة عين الله.
18- كتاب مسجد يوسف بن تاشفن بجانب المجلس العلمي المحلي لفاس.
19- كتاب حي طارق.
20- جمعية طارق ابن زياد باعوينات الحجاج.
هذه من أبرز الجهات التي تولي عناية فائقة للقرآن الكريم، ولاشك أن كل حي من أحياء مدينة فاس، له كتاب قرآني واهتمام كبير بكتاب الله، وليعذرني من لم أثبت اسمه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
————-
(*) محاضرة ألقيت في المتلقى الجهوي الأول للحافظات بالمجلس العلمي المحلي لفاس المنعقد يوم الأحد 9 صفر 1434هـ الموافق 23 دجنبر 2012م.
1- صحيح البخاري كتاب التفسير باب عبس وتولى رقم الحديث 4937 طبعة دار السلام للطبع والنشر.
2- سنن الترمذي أبواب فضائل القرآن باب إن الذي ليس في جوفه من القرآن.رقم الحديث:2913.
3- صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن رقم:5027.
4- صحيح البخاري كتاب الجنائز باب الصلاة على الشهيد، رقم:1343.
5- صحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب من أحق بالإمامة رقم: 1534
6- صحيح البخاري كتاب النكاح باب تزويج المعسر لقوله تعالى: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله.رقم:5087.
7- فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراءة عن ظهر القلب، رقم: 5030 ، 8/749. مطبعة دار التقوى.
8-الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني 1/30. طبعة دار الفكر.
9- المدرسة الأولى وصف شامل للتعليم الأولي بالمدرسة القرآنية في سوس نموذج مدرسة إلغ. ص 11 مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء.