393 محمد صلى الله عليه وسلم رسولا
د عائض القرني
فهو النبأ العظيم، والحدث الهائل، والخبر العجيب، والشأن الفخم، والأمر الضخم {عَمَّ يَتَسَاءلُونَ. عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}(النبأ : 1- 3)، فمبعثه حقيقة هو أروع الأنباء وأعظم الأخبار الذي سارت به الأخبار، وتحدّث به السمّار، ورعاه الركبان، واندهش منه الدهر، وذهب منه الزمن، فقد استدار له التاريخ ووقفت له الأيام، فقصة إرساله عليه الصلاة والسلام لا يلفها الظلام ولا تغطيها الريح ولا يحجبها الغمام، فإنما هي قصة عبرت البحار واجتازت القفار، ونزلت على العالم نزول الغيث، وأشرقت إشراق الشمس، فهو باختصار نور، وهل يخفى النور؟ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(الصف : 8).
وصحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث))( أخرجه البخاري، ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه).
عدوّك مذمومٌ بكل لسان وإن كان أعداؤك القمران
ولله سرٌّ في علاك وإنما كلام الورى ضرب من الهذيان
فهو عليه الصلاة والسلام بعث ليعبد الله وحده لا شريك له، بعث ليوحد الله، بعث ليقال في الأرض: لا اله إلا الله محمد رسول الله، بعث ليحقّ الحق ويبطل الباطل، بعث بالمحجة البيضاء والملة الغرّاء والشريعة السمحاء، بعث بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، بعث بالخير والسلام والبرّ والمحبة والسعادة والصلاح، والأمن والإيمان، بعث بالطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعث بمعالي الأمور ومكارم الأخلاق ومحاسن الطباع ومجامع الفضيلة، بعث لدحض الشرك وسحق الأصنام وكسر الأوثان وطرد الجهل ومحاربة الظلم وإزهاق الباطل ونفي الرذيلة، فما من خير إلا دلّ عليه، وما من شرّ إلا حذّر منه.
وأما خلقه عليه الصلاة والسلام فإن الله هو الذي أدّبه فأحسن تأديبه، فهو أحسن الناس خلقا، وأسدّهم قولا، وأمثلهم طريقة، وأصدقهم خبرا، وأعدلهم حكما، وأطهرهم سريرة، وأنقاهم سيرة، وأفضلهم سجايا، وأجودهم يدا، وأسمحهم خاطرا، وأصفاهم صدرا، وأتقاهم لربه، وأخشاهم لمولاه، وأعلمهم بالأمة، وأوصلهم رحمة، وأزكاهم منبتا، وأكرمهم محتدا، وأشجعهم قلبا، وأثبتهم جنانا، وأمضاهم حجة، وخيرهم نفسا ونسبا وخلقا ودينا.
فهو جميل الصفات مشرق المحيّا، قريب من القلوب، حبيب الى الأرواح، سهل الخليقة، ميسّر الطريقة، مبارك الحال، تعلوه مهابة وترافقه جلالة، على وجهه نور الرسالة، وعلى ثغره بسمة المحبة، حيّ القلب، ذكي الخاطر، عظيم الفطنة، سديد الرأي، ريان المشاعر بالخير، يسعد به جليسه، وينعم به رفيقه، ويرتاح له صاحبه، يحبّ الفأل ويكره الطيرة، يعفو ويصفح، ويسخو ويمنح، أجود من الريح المرسلة، وأكرم من الغيث الهاطل، وأبهى من البدر، وسع الناس بأخلاقه وطوّق الرجال بكرمه، وأسعد البشرية بدعوته، من رآه أحبّه، ومن عرفه هابه، ومن داخله أجلّه، كلامه يأخذ بالقلوب، وسجاياه تأسر الأرواح.
ثبّت الله قلبه فلا يزيغ، وسدّد كلامه فلا يجهل، وحفظ عينه فلا تخون، وحصّن لسانه فلا يزل، ورعى دينه فلا يضل، وتولى أمره فلا يضيع، فهو محفوظ مبارك ميمون {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم : 4)، { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ }(آل عمران : 159). يقول عليه الصلاة والسلام:” إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا” أخرجه البخاري 20 عن عائشة رضي الله عنها. ويقول: ((خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي))(أخرجه الترمذي والبيهقي في السنن عن عائشة رضي الله عنها). ويروى عنه أنه قال: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))(أخرجه البيهقي في السنن الكبرى). فسبحان من اجتباه واصطفاه وتولاه وحماه ورعاه وكفاه، ومن كل بلاء حسن أبلاه.