د. الحسين زروق
في إنشادِ الشِّعرِ في المسجد (2)
وقفنا في الجزء السابق وقفات مع الحديث النبوي الذي رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة(1).
ونواصل في هذا الجزء حديثنا عن جوانب أخرى للحديث نفسه.
ينبغي أن ننتبه إلى أنه يمكن فهم حديث الباب بروايتيه والحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فهما مختلفا، وهو أن حالة حسان رضي الله عنه حالة خاصة، وأن النهي قد يكون أتى بعد الإباحة، وبعد زوال أسبابه، ومنها ظروف الحرب التي كان يعيشها المجتمع المسلم، وهي ظروف استثنائية لا يمكن تعميمها على حالات السلم، فيكون النهي قد ورد بعد خروج المسلمين من تلك المرحلة الصعبة، وهو للإنصاف فهم ممكن، ومقبول، ولكن النظر إليه من زاوية سيرة الصحابة ومن أخذ عنهم من التابعين في المسجد يجعله مرجوحا، ويكفينا في ذلك ثلاثة آثار:
أولها ما رواه حارثة بن مُضرب بسند صحيح عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «إذا رأيتم الشيخ ينشد الشعر في المسجد يوم الجمعة ويذكر أيام الجاهلية فاقرعوا رأسَه بالعصا))(2)، وفيه أن الأمر لا يتعلق بمجرد إنشاد للشعر في المسجد)) بل بإنشادٍ موصوف بثلاث مسائل: فهو أولا من لدن شيخ، وهو ثانيا يوم الجمعة، ثم هو ثالثا مرفوق بذِكْر أيام الجاهلية، فظهر أن الإنشاد ليس هو المقصود)) بل المقصود أساسا انشغال الشيخ في المسجد يوم الجمعة بالشعر عن الذكر.
وثانيها ما رواه ابن أبي شيبة في كتاب الأدب، قال: «حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عيينة بن عبدالرحمن، عن أبيه قال: «كنت أجالِس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فيتناشدون الشعر، ويذكرون حديث الجاهلية))(3)، وهو أثر صريح في أن الصحابة كانوا ينشدون الشعر في المسجد.
وثالثها ما رواه ابن أبي شيبة أيضا في كتاب الأدب، قال: «حدثنا يزيد، أخبرنا هشام قال: سأل رجل محمدا وهو في المسجد والرجل يريد أن يصلي: أيتوضأ من يُنشد الشعر؟ ويُنشد الشعر في المسجد؟ قال: وأنشده أبياتا من شعر حسان ذلك الدقيق ثم افتتح الصلاة))(4)، وفيه أن محمد بن سيرين أجاب السائل بإنشاد الشعر في المسجد، ثم بدأ صلاته، ليشعر السائل عمليا بجواز ذلك.
فهذه آثار دالة على أن أمر الشعر في المسجد غير مذموم، وإنما المذموم بناء على حديث الباب أن يؤدي تداول الشعر في المسجد إلى تعطيل وظيفته الأولى وصرف الناس عنها، فحينها لا يتعلق الأمر بالموقف من الشعر)) بل بالإفراط فيه، والمقصود من كل ذلك أن المقام لا يَسمح بمثل هذا السلوك.
وأما المسألة التربوية فتُفهم مِن التوجيه النبوي للمسلمين على أن يُجَنِّبوا مساجدهم ما يُعطل وظيفتها، وهو توجيه يَهدف إلى أمرين:
أولهما تربية المسلمين على توقير المساجد، واحترامها، والحفاظ على مكانتها ووظيفتها.
وثانيهما تقوية مناعة لدى المسلمين تجعلهم لا يستسيغون أن يمارسوا عددا من الأمور داخل المساجد مما ينبغي أن يُمارس خارجها.
ثم إن الحديث يُضيف إلى ذلك أنه يُربيهم على تحمل المسؤولية، إذْ تَنْزيه المساجد عما يؤثر في وظيفتها، لا يقتصر فقط على المناعة التي تجعل المسلم يمتنع عن أن تصدر عنه مثل تلك التصرفات)) بل يضيف إليها -مراعاة للطبيعة البشرية، وتفاوت الناس في القابلية لتلك المناعة وتمثلها داخليا- تحميل المسلمين مسؤولية تنزيه المساجد عن ذلك حماية لمكتسباتهم الإيمانية، ومؤسستهم الربانية.
———————
1- سنن أبي داود، 1/283، حديث رقم 1079، ك.الصلاة، ب.التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة. وقد رواه الترمذي في سننه وحسنه. ن. صحيح سنن الترمذي، 1/191، حديث رقم 322 ك. الصلاة، ب. ما جاء في كراهية البيع والشراء وإنشاد الضالة والشعر في المسجد، كما حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (م.س)، وفي صحيح سنن ابن ماجة، 1/231، حديث رقم 614/756، ك. المساجد والجماعة، ب. ما يكره في المساجد.
2- المطالب العالية، 1/101، خبر رقم 363، كتاب الصلاة، باب صون المسجد. وقد علق عليه المحقق في الهامش الخامس بقوله: «قال البوصيري: رجاله ثقات)).
3- كتاب الأدب، ص: 378، أثر رقم 409، باب استماع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر وغير ذلك. ويزيد ثقة (تقريب التقريب، 2/286)، وعيينة صدوق(م.س، 2/82)، وأبوه عبدالرحمن بن جوشن ثقة(م.س، 1/356).
4- م.س، ص: 380، أثر رقم 412، باب استماع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر وغير ذلك. ويزيد هو ابن هارون، وقد سبق، وهشام هو ابن حسان، ثقة، وهو من أثبت الناس في ابن سيرين(تقريب التقريب، 2/244).