الإنفاق في سبيل الله وأهميته في التماسك الاجتماعي
ذ. إدريس اليوبي
الخطبة الأولى
…عباد الله:
إن من الأخلاق النبيلة، والصفات الحميدة، التي دعا إليها الإسلام، وتحلى بها المؤمنون الصادقون، خلق قد انشغل الناس عنه اليوم، ونسوه أو تناسوه، حتى كاد هذا الخلق يغيب بين الناس: عامتهم وخاصتهم- إلا من رحم الله- رغم أن هذا الخلق قد جعله الله تعالى صفة من صفات المؤمنين، ومدح به المتقين؛ إن هذا الخلق هو خلق الإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى: {الــــــم. ذلك الكتاب لا ريب فيه .هدىً للمتقين الذين يومنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}، وقال سبحانه: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}.
وقد ذهب بعض المفسرين في تحديد المراد من الإنفاق بأنه عام يشمل الزكاة المفروضة، وصدقة التطوع، والنفقة على الأهل والأولاد، وكل شيء، لأنه خلق من أخلاق المؤمنين.
والمؤمن الحقيقي هو الذي يعطي وينفق، ويبذل ويتصدق ويحتسب ذلك كله لله، ولا يقيد عطاءه بقيد أو شرط، حتى يصبح ذلك طبعًا فيه وخلقاً وفطرة، قال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية}، والمؤمن الحقيقي هو الذي ينفق من أحب الأشياء إليه، قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.
ولا عبرة في الإنفاق بالكثرة والقلة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا النار ولو بشق تمرة”، ولكن العبرة بالإخلاص لله، وابتغاء مرضاة الله؛ فكم من رجل تصدق بدرهم في سبيل الله خير ممن تصدق بأكثر من ذلك.
ومن رحمات الله تعالى بنا أنه يعطينا من فضله، ويطلب منا أن ننفق مما أعطانا، ثم يثيبنا على ذلك أعظم ثواب في الدنيا والآخرة ؛ أما في الدنيا فإن الله تعالى وعد المتصدق في سبيل الله بالخُلف والزيادة في الرزق، فقال جل وعلا:{وما أنفقتم من خير فهو يُخلفه وهو خير الرازقين}، كما وعد سبحانه وتعالى بتضعيف الخُلف والزيادة إلى سبعمائة ضعف فأكثر، فقال عز وجل:{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم}، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر:اللهم أعط ممسكا تلفا”؛ وأما الثواب في الآخرة فيتمثل في قوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تومنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب، وبشر المومنين}.
عباد الله : إذا كان البذل والعطاء والإنفاق عموما من الفضائل والشمائل التي رغب فيها الشرع الحنيف، فإن الزكاة – وهي إحدى أنواع الإنفاق والعطاء- لتعتبر واجبا من الواجبات، وفرضا يقوم عليه الدين، وركنا يبنى عليه الإسلام، قال تعالى:{ خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان”؛ ولكن كثيرا من المسلمين اعتقدوا أن الزكاة جزء منفصل عن بقية الأركان، أو هي أدنى مرتبة من الصلاة والصوم والحج … ونسوا أن الإسلام كل لا يقبل التجزيء، حتى أصبحوا يعيشون واقعا بعيدا عن أحكام الدين وتشريعاته، فمنهم من يتهاون في إخراج زكاة أمواله ويؤخرها عن وقتها، أو يخرج بعضها فقط، أو يعطيها لمن لا يستحقها، وكثيرا ما يقتصر في توزيعها على أهله وأقاربه، وذويه وعشيرته، ولو كانوا في غنى عنها؛ ومنهم من يفضل توزيعها على بعض الموظفين والمسؤولين الذين تربطه وإياهم مصالح مادية وأغراض شخصية، حتى يساعدوه على قضاء مآربه وحاجاته؛ ومنهم من يخرجها من الأموال التي ربحها من الفوائد البنكية؛ ومنهم من يخصصها لأداء الضرائب والرسوم التي تفرضها عليه الدولة؛ وأكثر الناس من التجار والصناع والفلاحين، وحتى الموظفين والمأجورين، نسوا أو تناسوا أن هناك ركنا في الإسلام اسمه الزكاة، فليحذر مثل هؤلاء من بطش الله وعقابه، قال تعالى:{ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}؛ أخرج ابن ماجه والبيهقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم يَنْقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)؛ وقال تعالى:{ ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة، ولله ميراث السماوات والأرض، والله بما تعملون خبير}
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، واجعلنا لآلائك من الذاكرين ولأنعمك من الشاكرين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
…عباد الله :
إن الزكاة خاصة والإنفاق والصدقة عامة أداة رئيسة ووسيلة فعالة لتحقيق مجموعة من الغايات سواء على المستوى الفردي أو الجماعي:
فأما على مستوى الفرد: فإن الذي يعتاد الإنفاق والبذل من المال الذي يملكه مواساة لإخوانه، وتوسيعا عليهم، ومساهمة في مصالح مجتمعه وأمته، يكون بعيدا أشد البعد عن الاعتداء على مال غيره بالنهب والسرقة والاحتيال والغش والخديعة، والذي يعطي من ماله لا يفكر أبدا أن يأخذ مال غيره بغير شرع، وإذا ساد هذا الصنف من الناس في المجتمع تحقق ما يسمى بالأمن الاقتصادي، وهو ما نحن في أمس الحاجة إليه اليوم.
أما على مستوى المجتمع: فبالزكاة والصدقة يتحقق التكافل بين الناس ويسود التعاون بينهم وتتقلص الفوارق الطبقية، وتُحل مشاكل ذوي الحاجات، وتُنفس عنهم الكُرب، وتُفرج عنهم الهموم، ويُوسع عليهم في الرزق، وتسود المحبة بين الأغنياء والفقراء، فينظر الغني إلى الفقير بعين الرحمة، وينظر الفقير إلى الغني نظرة احترام وتقدير، فتغيب عنهم العداوة والبغضاء والكراهية والحقد والحسد، وبذلك يتحقق ما يسمى بالسلم الاجتماعي، فيعيش الكل في أمن وأمان، وسلم وسلام.
عباد الله: إن هذه العيشة الهنيئة، والحياة السعيدة، التي تتحقق بتعاليم الإسلام هي التي افتقدناها اليوم بسبب بعدنا عن الدين، فقد غاب عن المسلمين مفهوم الأخوة وحقوقها، وغاب عن المسلمين مدلول الرحمة ومستلزماتها، وغاب عن المسلمين معنى المحبة ومتطلباتها، وغاب عن المسلمين مفهوم الإيثار الذي كان يحكم المسلمين في الشدة والرخاء حتى وصفهم المولى سبحانه بقوله:{ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يُوق شُح نفسه فأولئك هم المفلحون}.. فلابد أن نراجع أنفسنا، ونجدد فهمنا للدين، ونحسن التزامنا بالإسلام، وتطبيقنا لتعاليم الشرع، حتى يرضى عنا ربنا سبحانه…
فاللهم يا خير من دعاه الداعون، ويا أفضل من رجاه الراجون، ويا أكرم من سأله السائلون، نتوسل إليك- ربنا- أن تجعلنا من دعاة الخير والفضيلة، وأن توفقنا إلى فعل ما ترضى به عنا، اللهم إنا نسألك الصدق في القول، والإخلاص في العمل، ونسألك الرضا والقبول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ويغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين…