خرق التطاول على لغة القرآن الكريم
د. عبد المجيد بنمسعود
لكل سفينة لسان، به يتواصل أهلها ويتفاهمون حول أغراضهم وما به قوام أمرهم وتماسكهم واستمرار وجودهم الآمن على ظهر تلك السفينة، بما يعني أن ذلك اللسان هو ترجمان أفكارهم وعواطفهم وأهدافهم وآمالهم، والمشكل لذاكرتهم الحية ووجدانهم النابض، إنه بمثابة الشفرة الدقيقة التي تحمل أسرار الوعي لدقائق الوجود وخبايا الحياة، ومن ثم خطورة أمره في حياة سفينة أمة من الأمم.
هذه قاعدة عامة لكل الشعوب، تمثل سرا من أسرار الله، ففضلا عن كون اللسان هبة من الله جلت قدرته للإنسان، فإن الاختلاف فيه بين الأقوام والشعوب آية من آياته في خلقه، مصداقا لقوله تعالى:((ومن آياته خلق السموات والأرض، واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين((.
أما إذا تعلق الأمر بلسان العرب، فهو آية الآيات، على مستوى اللغات، لأنه اللسان الذي ارتضاه خالق الكون والإنسان، ليحمل آخر بلاغه لبني الإنسان: كلمات القرآن، يقول سبحانه وتعالى:(( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ((. ( يوسف:2) (( وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أنزل أشرف الكتب، بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان(( كما يقول ابن كثير رحمه الله.
يترتب على هذه الحقيقة العلمية الناصعة، أن الإيمان بشرف اللسان العربي، يعتبر أمرا لازما عن الإيمان بقداسة القرآن الكريم، ومن ثم فإن النيل من ذلك اللسان، بأي شكل من أشكال البخس والتنقيص، يعتبر تطاولا على قداسة القرآن الكريم، وسوء أدب مع الرحمن خالق الإنسان معلمه البيان. أتوجه بهذه الحقيقة، بل وأقذف بها بقوة، في وجه الذين يخوضون حربا شعواء ضد العربية في هذه الأيام، هؤلاء الذين وإن اختلفت أساليبهم في الهجوم على لسان القرآن الكريم، فإنهم يصدرون عن دواعي مشتركة، يجمعها الحقد عليه، وعلى الرسالة العظمى التى يحملها للناس كافة، هداية ورحمة وشفاء. ولن يشفع لبعض شانئي اللغة العربية العصماء، أو يخفف من انطباق وصف الخيانة والعدوانية عليهم، ما يزعمونه من نصح كاذب للعربية وأهلها، فقد زعم أحدهم في مقال له على صفحات مجلة ((هسبرس(( الإلكترونية تحت عنوان:(( رِفْقاً باللغة العربية أيها التعريبيون، رجاءً لا تقتلوها بتعريبكم المجنون(( أن الطريقة المثلى لخدمة اللغة العربية- التي يصفها بأنها نصف حية- هي أن تجرد من وظيفة تدريس المواد، أدبية كانت أوعلمية، ويقتصر على تدريسها باعتبارها لغة ليس إلا، على أن تعيش في حمى لغة حية، يفضل أن تكون هي الفرنسية، نظرا لكونها لغة التخاطب اليومي، ولالتصاقها بوجدان الشعب، جراء حقبة الاستعمار، وأفضل من ذلك أن تعيش العربية – في نظر هذا الناصح الغريب- في كنف اللغة الأمازيغية، لو أنها توجد في وضع يؤهلها لذلك، لأنها اللغة الأم للمغاربة بامتياز، فهو يبارك خطوة فرنسا و ينحي في المقابل باللائمة على الحركة الوطنية ويجردها من صفة الوطنية الحقة لأنها قطعت الطريق على نمو الأمازيغية وحرمتها من الصدارة والهيمنة على مسار التعليم، يقول:(( كانت فرنسا قد شرعت في تدريس الأمازيغية في فترة الحماية. فلو أن ((الحركة الوطنية(( كانت وطنية حقا، لحافظت على هذا التدريس ونمّته وطوّرته، ولكانت لدينا، بعد مدة معقولة، لغة وطنية مؤهلة للاستعمال المدرسي وهي اللغة الأمازيغية((.
ويضرب صاحب المقال عرض الحائط بكل الأسباب الموضوعية التي كانت ، ولا تزال، وراء الوضع الصعب الذي تعاني منه اللغة العربية، وينساق وراء تفاسير وتعليلات وهمية يحاول إلباسها لباس المنطق، والحال أنها لا تعدو أن تكون دعوى إيديولوجية فجة أملتها العصبية والهوى.
أما الذين يتصدون للغة القرآن الكريم بوجه سافر، وبدون أصباغ، فهم الذين يدعون بلا مواربة، لأن توضع العربية على الرف، وتسلم أمانة التربية والتعليم للعربية الدارجة، فهي الأجدر بأن تنقل المنظومة التعليمية من تخبطها المريع، وتفك عنها عقدها وتوصلها إلى بر الأمان. ويبرز كمثال لما تبذله تلك الجبهة المناوئة للغة القرآن وثقافة القرآن من جهود تخريبية: ((ملتقى زاكورة الدولي الذي نظمه رجل الأعمال نور الدين عيوش((في بداية أكتوبر 2013 وحضرته شخصيات وازنة في هرم السلطة السياسية والتربوية بتوصيات أبرزها تحديث التعليم الأولي والتراجع عن التكوين الديني باللغة العربية أو على الأقل التقليص من حفظ القرآن والانفتاح على اللغات واعتماد بيداغوجيا اللعب وتنمية المواهب والتربية على الهوايات ثم التراجع عن تعريب المواد العلمية في الطورين : الإعدادي والتأهيلي واعتماد التدريس باللغة المغربية المتداولة(العامية) مع الدعوة إلى تقعيدها وإعدادها كبديل للعربية الفصحى وتوسيع قاعدة تشغيل اللغة الإنجليزية واعتبارها مادة العلوم والتقنيات والانفتاح على لغات جديدة إلى جانب الفرنسية كالإسبانية والصينية((( انظر مقال: نافذة على المدرسة العمومية : لغة التدريس أم لغة التواصل الديداكتيكي ؟ المنشور بهسبرس).
إنه لكيد كبير ومكر كبار، أن تحرم اللغة العربية من شروط سليمة للعمل، وأن لا تفسح أمامها الطريق لتخرج مكنوناتها للناس، بل أن توضع أمامها العوائق والمثبطات والعقبات، ثم يقال إنها قد أخفقت في بلوغ ما أنيط بها من أهداف، إنها خدعة مكشوفة تمارس على كل المستويات، ليقين أعداء القرآن، ولغة القرآن الكريم، بأنه إذا خلي بينه وبين واقع الناس، سيريهم العجب العجاب، وسيفرض وجوده على أولي النهى والألباب.
إنها أصوات مشبوهة – إذن – واضحة العداء، تسعى إلى ترسيخ حركة الردة والنكوص حتى عن بعض المكاسب البسيطة في ميدان التعليم، وإلى اللغو والتشويش على جهود المخلصين، وسط مناخ ملغوم تعددت فيه المؤامرات والمحن، وتضافرت المعاول، لتثخن في سفينة الأمة خروقا وفي أهلها جراحا، لن يتوقف نزيفها إلا بالتصدي المنهجي الحازم، لتلك الأصوات الناعقة، لتطهير المشهد من المنغصات والمثبطات، ولتهب رياح الخير رخاء على سفينة الأمة، لتجري في مسارها اللاحب الرصين، نحو أهدافها السامية المقدسة، شراعها في ذلك الإصرار واليقين، وزادها هدى القرآن ولغة القرآن.