د. عبد المجيد بنمسعود
قبلة أم قنبلة؟ ومن الـمسؤول؟
ما جرى من مداد غزير، وأثير من صخب عارم حول ما سمي ب” قبلة الفايسبوك” أو قبلة الناضور، تحول بشكل غريب ومثير، إلى سجال متعدد الأبعاد، أدلى فيه كل طرف بدلوه، بما يعبر عن معتقده وتصوره للحياة، ويمكن تصنيف ما تم التعبير عنه من مواقف وآراء، إلى ثلاث جبهات أو طوائف:
تمثل الأولى منها موقف التنديد والاستنكار لصنيع المراهقين الثلاثة، باعتباره تعاونا آثما على نشر صورة لفعل مخل بالحياء على الشابكة، بما يعني تداولها على نطاق عالمي يجعلها في مستوى الفضيحة المدوية، وما يمثله ذلك من ضرب لقيم الحياء، ودعم لتيار الفساد الذي يهيمن على المجتمعات الواقعة تحت المد الكاسح لعولمة مفترسة عاتية ، وبلغ هذا الموقف ذروته بجعل مرتكبي ذلك السلوك تحت طائلة القضاء، بما استتبعه من اعتقال المراهقين الثلاثة، ومساءلتهم عما اقترفوه.
وتمثل الثانية موقف المناصرة للأظناء،، وذلك في شكل رد فعل مضاد لموقف الطائفة الأولى، على اعتبار أنه نحا في منظورها منحى تضخيميا للتصرف موضوع الضجة والسجال، لا لأن الأمر يتعلق بتصرف بسيط لا يعتد به في حساب الأعمال الجنحية، ولكن لأن الأمر يتعلق بمساس سافر بما يعتبرونه حقا من حقوق المراهقين في التعبير الطليق عن مكنوناتهم العاطفية، وفي تصريف شحناتهم الغريزية دون حجر ولا تضييق، أما عن أمر الإعلان عن الفعلة على صفحات الفايسبوك، فهو في منظور هذه الطائفة المتحررة من سلطان القيم والتقاليد، غير منفك عن مبدأ زائف مزعوم، هو ذاك الذي ينبغي -في منظورهم-أن يحكم التعامل مع بحر لجي تتلاطم أمواجه، ولا تكاد تستقر على حال، إنه مبدأ التحرر من قيود القيم وضوابط الدين.
أما الطائفة الثالثة فهي الطائفة التي نأت بنفسها عن الحكم على سلوك المراهقين الثلاثة في معزل عن سياقه المجتمعي، وما يكتنفه من تلوث ثقافي وانحراف سلوكي من جهة، ومجردا- من جهة أخرى- عن معيار مقارنته بالجرائم الكبرى والمفاسد العظمى التي تنخر كيان المجتمع، سواء تعلق الأمر بالجرائم المندرجة تحت جنس النازلة موضوع الضجة، وهو جنس الجرائم التي تمس الأعراض وتخدش الحياء، أو بالجرائم الأخرى المندرجة تحت مختلف الأجناس، فيكون من مقتضى هذه النظرة أن تعالج النازلة من زاوية سوسيو- ثقافية، بما يفضي إلى اعتبارها نتيجة حتمية لحالة مجتمعية مطبوعة بتكاثر الخبث السلوكي، جراء اختلال الموازين على مستوى التأطير التربوي والثقافي، أو التأطير العقابي التشريعي، ويكون من مقتضى تلك النظرة أيضا أن يضرب صفحا عن السلوك المقترف، لأنه لا يسوغ في ميزان العقل، أن يجرم قاصران على تبادل قبلة، حتىولو عرضت على رؤوس الملأ في الفضاء العالمي، وتقابل جرائم الأعراض الصارخة بالعفو والإعراض، أو بالاستخفاف وإطلاق العنان، بل وبتوفير كل الأسباب والشروط التي تؤدي إلى نشوئها ونمائها وهياجها إلى حد السعار.
والحق أن معالجة الطائفة الثالثة هي الأقرب إلى الموضوعية والصواب، وإلى العدل في إصدار الحكم على النازلة، لأنها توفرت على عنصر الشمول، ومن ثم مراعاة جميع العوامل والحيثيات المحيطة بها، مع تنبيه ضروري في هذا المقام، وهو عدم صوابية حكم تلك الطائفة على سلوك المراهقين ونعته بالبساطة، لأنها أغفلت عنصرا هاما للتقويم والوزن، وهو عنصر السياق الذي مورس فيه الفعل، والحال أنه سياق اجتماعي وثقافي يتميز بالتسيب، وبثقوب خطيرة في جهاز المناعة المجتمعي، يجعل سفينة المجتمع تتحرك بصعوبة بالغة، وهذا يسمح لنا بالقول: إن الفعل البسيط الصغير الذي يدخل في اللمم في اصطلاح شريعة الإسلام، لا يؤمن عليه أن يبقى في حدود اللمم، في ظل بيئة اجتماعية ملوثة مزروعة بشتى صنوف الألغام: دعوة سافرة للفاحشة صباح مساء، ووابل من المثيرات والمغريات تصب على رؤوس الأطفال والمراهقين والشباب والرجال والنساء، وآلاف من القذائف الشيطانية العابرة للقارات، في ظل غياب مريع للتحصينات والمضادات.
وهنا لا بد أن أسجل ملحوظة هامة تتعلق باستشهاد بعض الكتاب- وهم يتناولون هذه النازلة- بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم وأبو داود وأحمد والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه ، والذي مفاده أن رجلا جاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف له بأنه قبل امراة، وطلب منه أن يفعل به ما يشاء، فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلب إرجاعه بعد انصرافه، فقرأ عليه قول الله تعالى: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} .
أقول إن الذين استشهدوا بالحديث الذي هذا بعض مضمونه، لم يراعوا الفرق بين طبيعة المجتمع النبوي الذي يتسم بالطهر، وبسرعة الأوبة إلى الله عز وجل، وبامتلاكه لجهاز مناعة قوي، يمنع تفاقم الأمراض، ويضع لها حدا إما بوازع داخلي يتمثل في اليقظة الإيمانية، أو برادع خارجي يتمثل في الإجراءات الزجرية، وبين مجتمع تتناسل فيه المعاصي والذنوب، وتتطور من لمم إلى موبقات، بسبب انعدام العنصرين السابقين، إلا قليلا، خاصة في أوساط فئة غضة تفتقد إلى التربية والتهذيب، وتعرض لمؤثرات مدمرة تنسف الفطرة، وتحجب المعاني الجميلة والدوافع النبيلة، وتزين صنوف الغواية والسقوط في شرك المعصية وأحابيل الشيطان.
من المسؤول إذن عن القبلة الزائغة وتداعياتها وشظاياها التي تطايرت في كل اتجاه، حتى صارت أشبه بالقنبلة فيما تخلفه من دمار وحطام؟
إن التحليل العميق والتقدير الحصيف، لا يستثنيان من المسئولية أحدا، على تفاوت في ذلك بين المواقع التي تشغلها الأطراف المتعددة الضالعة في النازلة، بدءا من المسئولين عن المنظومة التعليمية الذين سمحوا لجرثومة الاختلاط بين الجنسين أن تعربد في المؤسسات التي تحتضن المراهقين، وتفتك بالصحة النفسية والعقلية للشباب، وتودي بمستوى التحصيل العلمي، وتنحدر به إلى أسفل المراتب، وتثنية بالمسؤولين عن أجهزة الإعلام التي أصبحت أجهزة لنشر أمثلة السوء، وإعدام القيم وهدم العقول، ونسف البناء الحضاري للأمة جملة وتفصيلا، مرورا بدور الأسرة التي ينبغي أن تشكل الدرع الحصين والحارس الأمين، في مواجهة الرياح العاتية التي تهب من كل حدب وصوب، دون أن ننسى كل مكونات البيئة الثقافية والاجتماعية وما تحتضنه من بذور ولقاحات، تحمل جينات الفساد والانحراف، الكل مسؤول والكل مسؤول عن رعيته كما هو منطوق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن المجتمع بجميع مكوناته وقنواته إذا استقال من تحمل مسؤولياته، يتحول حتما إلى تفريخ المجرمين والمنحرفين، الذين لا يخلو أن يكون منهم ضحايا بريئون، بسبب حرمانهم من تربية سليمة بناءة، تصنع الرجال والنساء على عين الإسلام، أولئك الذين يرأبون الصدوع، ويرفعون بناء الحضارة الشامخ الرفيع.