393 اللغة العربية لغة القرآن : مباني ومعاني(9) “دلالة النعت “مصدق” في الآية : “وهذا كتاب مصدق” تتمة وتعليق
د. الـحـسـيـن گـنـوان
ناقشنا في الحلقة الماضية (المحجة عدد 392) دلالة الكلمة “مصدق” باعتبار بنيتها. وجانب من وظيفتها في التركيب في قوله تعالى : {وهذا كتاب مصدق}، وبسطنا القول بخصوص وظيفتي النعت الأصليتين : حيث يكون المنعوت معرفة أو نكرة، ثم ختمنا بسؤال عن أي نوع من بين نوعي وظيفتي النعت المذكورتين (1- 2) يمكن أن نطبقه على المثال الوارد في الآية : {وهذا كتاب مصدق}؟
والجواب : أن المنعوت (كتاب) في الآية المذكورة نكرة مثل (رجل) الوارد في المثال(2) من بين المثالين (1- 2) المشروحين في الحلقة الماضية. وعليه فالنعت “مصدق” للتخصيص وتقليل الاشتراك في (الاسم) مثل (عالم) في المثال(2)(زارني رجل عالم) ذلك أن اسم كتاب يمكن أن تسمى به كتب أخرى. فيتم الاشتراك في الاسم، ولذا خُصص هنا (أي في قوله تعالى : {وهذا كتاب مُصدق} بالنعت : “مصدق”. لكن هذا التخصيص بالصدق يطرح سؤالا آخر في سياق المقارنة بين هذا الكتاب المخصص بالتصديق، وبين غيره من الكتب وبالخصوص هذا الذي نقارنه معه وهو كتاب موسى؟.
ثانيا : أيْ النوع الثاني من وظائف النعت الدلالية :
وقد أشرنا في الحلقة الماضية (المحجة عدد 392) إلى أننا سنذكرها بأسمائها وأمثلتها فقط لأن دلالة كل واحدة منها تفهم من السياق الذي وردت فيه. وذكرنا لها لأجل الإفادة فقط، وإلا فالمقصود الذي من أجله أوردنا وظائف النعت قد تحقق بالوظيفة الثانية(2) من بين الوظيفتين اللتين أوردناهما أولا. وهذه الوظائف التي يرد لها النعت كما يلي :
1- المدح كما في قوله تعالى : {الحمد لله رب (العالمين)}.
2- الذم كما هو في المثال : {أعوذ بالله من الشيطان (الرجيم)}.
3- الترحم كما جاء في المثال : “لطف الله بعباده (الضعفاء)”.
4- التوكيد كما في قوله تعالى : {لا تتخذو إلهين (اثنين)}.
5- التعميم كما جاء في المثال : “الله يحشر الناس الأولين و(الآخرين)”.
6- المقابلة كما في قوله تعالى : {حافظوا على الصلوات والصلاة (الوسطى)}.
7- التفصيل كما جاء في المثال : “مررت برجلين : (عربي وعجمي)..”(همم الهوامع 2/6 بتصرف).
والملاحظ أن المعنى الوظيفي للنعت الذي يناسب دلالة كلمة “مصدق” كما وردت في الآية التي نناقشها {وهذا كتاب مصدق} من بين هذه الوظائف الدلالية المذكورة هو التخصيص المقيد بالتنكير كما سبق توضيحه في المثال رقم (2) من بين المثالين اللذين شرحناهما بهذا الخصوص في الحلقة الماضية(المحجة عدد 392) وهو: “زارني رجل (عالم)”. ولهذه الوظيفة الدلالية (أي التخصيص) دلالتها المتميزة مقارنة مع بقية وظائف هذه القاعدة، فالإيضاح الذي رأيناأنه وظيفة النعت عندما يكون المنعوت معرفة ـ كما مر في المثال الأول من بين المثالين اللذين شرحناهما في العدد الماضي(392) يستوجب نوعا من النقص في المنعوت.
والمدح(1) الذي هو “نقيض الهجاء(وهو حسن الثناء”(ل ع 2/389) يكون من المادح للممدوح مقابل جميل أسداه إليه، فهذه الوظيفة مقيدة بهذه الصفة التي قد تكون صادقة، وقد تكون مجاملة ومداراة، والذم(2) صفة قدحية في حق المذموم، والترحم(3) يستوجب نوعا من الشفقة على المترحم عليه، والتوكيد(4) دعامة وتقوية للمؤكد لأنه في حالة ضعف، والتعميم(5) يجعل الوصف موزعا على أكثر من فرد، والمقابلة(6) تكون بين طرفين متساويين في صفة ما، والتفصيل(7) يستوجب الإجمال قبله الذي فيه نوع من الغموض في المعنى.
وعليه فبناء على هذه التعليلات التي عللنا بها وظائف النعت المذكورة تبقى وظيفة التخصيص كما جاءت في هذه الآية : {وهذا كتاب مصدق} متميزة بدلالتها : لأنها غير معللة بما يُشعر أنها موسومة بنقص ما. إنها لغة القرآن التي تنتقي أحسن ما في العربية من “بيان” {ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك} ويقوى هذا الفهم ويتعزز بدلالة الكلمتين اللتين ختمت بهما هذه الآية وهما “لسانا عربيا” في قوله تعالى : {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} فلكل كلمة من بين الكلمتين “لسانا عربيا” وظيفتها الدلالية : المعجمية، والتصريفية والتركيبية. ونوضح ذلك كما يلي :
أـ “لسانا” يقول الرازي: “اللسان : جارحة الكلام، وقد يكنى به عن الكلمة فيؤنث “(مختار الصحاح مادة لسن).
ويقول ابن منظور : “ابن سيدة : اللسان : اللغة…
وقوله عز وجل : {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} أي بلغة قومه. ومنه قول الشاعر :
أتتنى لسان بني عامر أحادثها بعد قول نُكر..( ل ع13 لسن).
وعليه فكلمة “لسانا” في الآية تعنى اللغة. بيد أن لهذه الكلمة “لسانا” قياسا خاصا بها في حالة الجمع وهو ألسنة وألسُن ولكل جمع دلالته. وهذا ما يوضحه ابن منظور بقوله “واللسان : المِقْوَل، يذكر ويؤنث، والجمع ألسنة فيمن ذكر مثل حمار وأحمرة، وألسُن فيمن أنت مثل ذراع وأذرع، لأن ذلك قياس ما جاء على فِعال من المذكر والمؤنث وإذا أردت باللسان اللغة أنثت يقال فلان يتكلم بلسان قومه، قال اللحياني : اللسان في الكلام يذكر ويؤنث…”(ل ع 13 مادة لسن).
هكذا يتضح أن كلمة “لسان” تطلق في الواقع اللغوي على المذكر وتعني جارحة الكلام كما أورده الرازي، وعلى المؤنث وتعنى اللغة، والمعيار المميز بين النوعين هو صيغة الجمع التي تاتي على وزن أفْعِلة للمذكر، وافْعُلْ للمؤنث، وهذا يدل على أن الصيغ الصرفية ليست بريئة من الدلالة بنسبة مّا. ومنها صيغة ((فِعال)) التي جاءت كلمة ((لسان)) على وزنها.
فلو تتبعنا دلالات الكلمات التي جاءت على هذا الوزن مثل : قتال، وشجار، وسباب، وشقاق، وبغاء، ونزاع ولواط… وغيرها من الدلالات السلبية، ثم حِسان، وظِلال، وعِباد، وعِناق، وكِتاب، وضِراب وغيرها من الدلالات الإيجابية، لتبين أن لصيغة فِعال وقع متميز من بين صيغ التصريف، وذلك نتيجة زيادة الألف ثالثة في هذه البنية، يقول سبويه ((والألف تزاد في فَاعل ونحوه، وثالثة في عِماد ونحوه))(ك 235/4)، ولا شك أن كل الأمثلة التي أوردناها في هذا الموضوع مطابقة في أوزانها لكمة ((عماد)) ومنها بطبيعة الحال، كلمة ((لِسان)) التي نحن بصدد مناقشة دلالتها في الآية {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} ويمكن تقسيم هذه الكلمات حسب أبنيتها إلى ثــلاثة أصناف:
أ- المصادر مثل قتال، وشقاق، وبغاء.
ب- جموع تكسير مثل : ظلال، وعباد، وحسان.
جـ- أسماء مثل : كتاب، وسباب، وضراب (مع تجاوز).
وكل نوع من بين هذه الأنواع الثلاثة يشارك بدلالته الخاصة في بناء الدلالة العامة لبنية ((فِعال)) لنتأمل مثلا ما يكْمُن من أحداث وراء دلالات المصادر : قتال، شقاق، بغاء. وما تدُلّ عليه جموع التكسير وهي جموع كثرة حسب ما نعتقد من راحة في ((ظلال))، وخضوع واستسلام لخالق الكون ومدبر شؤونه في ((عباد))، ثم متعة الجمال في ((حسان))، ومثل هذا يقال في الأسماء المفردة (ح) والتي منها ((لسان)) يقول ابن فارس في أصل هذه الكلمة لسن : اللام والسين والنون أصل صحيح واحد، يدل على طول لطيف غير بائن في عضو وغيره من ذلك اللسان..))(مقايس اللغة 5 مادة لسن ص 246) ويبدو أن هذا الأصل ((لسن)) من باب نصَر الذي يغلب في الأفعال المصنفة فيه أن تكون متعدية بمعنى أن الحدث بها يتجاوز الفاعل إلى المفعول، وهذه سمة من سمات القوة، ويرد لازما من باب طِرب حيث يقتصر الحدث على الفاعل. وبهذا يجمع هذا الفعل ((لسن)) بين الحسنيين. يقول الراز ي: ((واللّسَنُ بفَتحتين الفصاحة وقد (لسن) من باب طرب.. و(لسَنهُ) أخذ بلسانه وعابه كَنًصَرَ))(مختار الصحاح) هذا بالنسبة للمكونات المعجمية و الصرفية لكلمة ((لسان)) في الآية {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا}. أمّا بخصوص وظيفة هذه الكلمة ((لسانا)) في التركيب، فإنها تعرب حالا، وفي هذا السياق يقول ابن منظور : ((وقوله عز وجل {وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} أي مصدق للتوراة، وعربيا منصوب على الحال. المعنى مصدقٌ عربيا، وذكر لسانا توكيد. كما تقول : جاءني زيد رجلا صالحا. ويجوز أن يكون لساناً مفعولاً بمصدق، والمعنى مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم، أي مصدق ذا لسان عربي))(ل ع 13 مادة لسن ص 386).
هكذا يتضح أن ابن منظور يعرب الكلمتين : ((لساناً)) و((عربيا)) على أن الأولى حال، والثانية توكيد، ولكل واحدة من هاتين القاعدتين وظائف دلالية نأجل الحديث عنها إلى الحلقة المقبلة إن شاء الله تعالى -يتبع-.
المراجع :
1- همع الهوامع للسيوطي.
2- الكتاب لسيبويه.
3- معجم مقاييس اللغة لابن فارس.
4- معجم مختار الصحاح للرازي.
5- لسان العرب لابن منظور.