اللغة العربية لغة القرآن : مباني ومعاني(8) “مكونات مفهوم الصدق اللغوية انطلاقاً من قوله تعالى : {وهذا كتاب مصدق}392
د. الـحـسـيـن گـنـوان
“مكونات مفهوم الصدق اللغوية انطلاقاً من قوله تعالى : {وهذا كتاب مصدق}
ناقشنا في الحلقة الماضية (عدد 389) دلالة الكلمتين الأوليين من الآية “وهذا كتاب” في سياق المقارنة بين القرآن الكريم وكتاب موسى الذي كان قبله انطلاقا من الدلالات اللغوية.
وفي هذه الحلقة نتابع الحديث عن بقية الكلمات الواردة في الآية المذكورة أعلاه، لاستنباط ما يمكن استنباط، من دلالات هذه الكلمات وفق صيغ القواعد التي وردت بها من نحو أو تصريف،
على أن لا ننشغل بالقواعد لذاتها، بل ينبغي أن نهتم بما نتج عنها من معنى.
1- مصدِّق : في قوله تعالى : {وهذا كتاب مصدق}. فكلمة “مُصَدِّق” اسم فاعل من فعل “صدَّق” بتشديد الصاد وأصله “صَدَقَ يصدُق مثل نصر يَنْصُر وكتب يكتب، وعليه يمكن القول بأن هذه الكلمة مرت بثلاثة مراحل قبل أن تصير اسم فاعل. “مُصدِّق” ولها في كل مرحلة وظيفة دلالية معينة. فالأصل هو فِعْل “صَدَق” على وزن فَعَل بفتح العين ومضارعه “يَصْدُق” على وزن يَفْعُل بضم العين، وكل فعل أتى على هذا الوزن في الماضي والمضارع يقال فيه إنه من باب نصر أي أنه يأتي على وزن نَصر ينصُر. والغالب في هذا النوع من الأفعال أن تكون متعدية مثل نَصر، وأكل وقتل، وكتب..الخ، بمعنى أنها لا بد لها من مفعول بعد الفاعل حتى يتم المعنى، فهي أفعال قوية بهذا المعنى، لأن الحدث يتجاوز الفاعل إلى المفعول. وقد تأتي بعض أفعال هذا الباب لازمة حيث تكتفي بالفاعل فيتم المعنى مثل مات، وقام، وسقط، ولاح… لكن العجيب أن فعل “صَدَقَ” يجمع بين الحسنيين بمعنى أنه جاء متعديا تارة ولازما أخرى، فمما جاء فيه متعديا قوله تعالى : {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} (آل عمران : 162) وقوله : {ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم}(الأنبياء 9).
أما ما جاء فيه هذا الفعل لازما فهو قوله تعالى : {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا}(آل عمران : 95). وقوله : {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت…}(يوسف 26). وقوله : {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون}(يسن52) وقوله : {قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله}(الأحزاب : 22).
وبقطع النظر عن نوع الفاعل الذي أُسْنِد إليه فعل “صَدَقَ” في القرآن الكريم، وعن نوع الحدث الذي ورد فعل صدق في سياقه، فإن هذا الفعل الذي هو أصل لاسم الفاعل مُصدِّق الذي وصف به القرآن الكريم له ميزة دلالية خاصة سواء في دلالة حروفه التي تألفت منها الكلمة، أو بنيته الصرفية التي جاءت على وزن فعل يفعل بفتح العين في الماض وضمها في المضارع، أو من حيث ورود هذا الفعل لازما في تركيب، ومتعديا في آخر. وتلك مزية من مزايا الأسلوب القرآني الذي انتقى من أبنية اللغة أعلاها.
هذا والفعل الذي نتحدث عنه “صَدَق” مجرد. واسم الفاعل الذي بين أيدينا هو “مَصدِّق” وهذا ما يعني أن هذه الصفة أي اسم الفاعل “مصدق” لم يشتق من أصله الثلاثي “صدق” فلو اشتق من هذا الأصل الثلاثي المجرد لكان “صادق” على وزن فاعل، وإنما هو مشتق من صدق المزيد بالتضعيف الذي هو “صدَّق” بتشديد الدال على وزن “فعَّل” بتشديد العين، وهذا يعني أن دلالة هذا الفعل لم تعد بسيطة، بل صارت مركبة من “صدق” المجرد بدلالته البسيطة و”صدق” المزيد بالتضعيف، وهنا يصح أن نقول إن الزيادة في المبنى قد أدت إلى تقوية المعنى، وفي هذا السياق يقول ابن جنى : “قال أبو عماد : اعلم أن فعَّلتُ أكثر ما يكون لتكرير الفعل، نحو قطَّعْتُ وكسرت وإنما تخبر أن هذا فعل وقع منك شيئا بعد شيء على تطاول الزمان، وقد يجيء لا يراد به ذلك نحو صبَّحت المنزل ومسَّيْته وكلَّمت زيدا…”(المنصف 1/91).
تلك هي دلالة فعل “صدَّق” المزيد بالتضعيف، وهي حدوث الفعل على تطاول الزمان وهذه صفة ملازمة للموصوف بها في قوله تعالى : {وهذا كتاب مصدِّق” لأن مصَدِّقٌ مشتق من فعل يُصَدِّق الذي يدل على التجدد والحدوث. لأن القاعدة تقول بأن اسم الفاعل من غير الثلاثي يكون “على وزن مضارعه بإبدال حرف المضارعة ميما مضمومة وكسر ما قبل آخره إن لم يكن مكسورا في الأصل”(عباس حسن 3/248). وهكذا نلاحظ أن مضارع فعل صَدَّق بتشديد الدال هو يصدق بزيادة حرف الياء في أوله وهو حرف المضارعة، وأن هذا الحرف أُبْدل في هذا الفعل بالميم فصار “مصدِّق”، ولم تحتج إلى كسر ما قبل آخره الذي هو الدال لأنه كان مكسورا في فعل يصدِّق. وبهذا توصلنا إلى اسم الفاعل الذي هو “مُصدِّق”. ومن جملة ما عرَّف النحاة به اسم الفاعل قول بعضهم “هو ما دل على حدث وصاحبه”(همع الهوامع 2/96)، وقول الآخر : “اسم مشتق، يدل على معنى مجرى حادث، وعلى صاحبه، فلا بد أن يشتمل على الأمرين معا هما المعنى المجرد الحادث، وفاعله مثل كلمة”زاهد” وكلمة :”عادل” في قول القائل : “جئني بالنَّمر الزاهد، أجئك بالمستبد العادل، فكلمة : “زاهد” تدل على أمرين معا هما الزهد مطلقا، والذات التي فعلَتْه، أو يُنسَب إليها، وكذلك كلمة “عادل” تدل على أمرين معا، هما العدل مطلقا والذات التي فعلته أو ينسب إليها”(…3/238).
وهذا الذي ذكرته بالنسبة لدلالتي “عادل” و”زاهد” يمكن تطبيقه على كلمتي “صادق” و”مُصَدق”، وإذا يمكن القول بأن “مصدق” اسم فاعل يدل على الصدق وعلى الذات المعنوية التي يُنسَبُ إليها في قوله تعالى : {وهذا كتاب مصدق} وهي دلالة مركبة كما هو واضح، لأن هذه الكلمة “مصدق” ثنائية الدلالة، وهي الحدث الذي هو الصدق، والمنسوب إليه وهو الكتاب الموسوم بهذه الصفة. وهي صفة مميزة لأي متصف بها لقوتها ونبلها. يقول ابن فارس : “الصاد والدال، والقاف أصل يدل على قوة في الشيء قولا وغيره. من ذلك الصدق : خلاف الكذب، سمي لقوته في نفسه، ولأن الكذب لا قوة له ، هو باطل، وأصل هذا من قولهم : شيء صَدْقٌ، أي صُلْبٌ، ورمْح صَدْقٌ…” (مقاييس اللغة 3/ مادة صدق، ص 339)، هذا هو المفهوم الذي تتضمنه دلالة اسم الفاعل “مُصدِّق” ولذا عبر عنه ببنية مركبة من عدة معاني من نفس المعنى بدأت من دلالة فعل “صَدَقَ” المجرد بما رأيناه فيه أعلاه من سمات القوة في هذا الفعل باعتباره من باب نَصَر، لازما ومتعديا، ثم مزيده بالتضعيف “صَدَّقَ” الذي يدل على حدوث فعل على تطاول الزمان، ثم مضارعه الذي يدل على التجدد والحدوث، وأخيرا اسم فاعله “مُصدق” الذي يدل على الحدوث وصاحبه.
هذا على مستوى دلالة البنية مجردة عن وظيفتها في التركيب “وهذا كتاب مصَدِّق”. أما فيما يخص وظيفة هذه الكلمة “مُصدّق” باعتبار علاقتها بما قبلها فهي نعت أو صفة على اختلاف في الاصطلاح بين الدارسين ويعرفون النعت بقوله : “تابع يبين بعض أحوال متبوعه وليكمله بدلالته على معنى فيه مثل : جاء الرجل (الأديب) ويقال له النعت الحقيقي(فالأديب نعت للرجل بيَّن بعض أحوال الرجل الذي هو اتصافه بالأدب مع إمكان وجود صفات أخرى من الصفات المكملة للرجولة). أو يبين بعض أحوال ما يتعلق بمتبوعه مثل : جاء الرجل (الحسنُ) حظُّه ويقال له النعت السببي(فكلمة الحَسَنُ) التي هي نعت هنا ليست لها علاقة بالرجل مباشرة، وإنما علاقتها مرتبطة بكلمة “حظه” وهي حال من أحوال الرجل. ولذا قال في التعريف أعلاه “أو يبين بعض أحوال ما يتعلق بمتبوعه، وهو النعت السببي. والذي يعنينا في هذا السياق الذي نحن بصدده ” وهذا كتاب مصدق” هو النوع الأول أي النعت الحقيقي. وله وظائف دلالية متعددة يستنبطها الذوق اللغوي السليم من سياقات استعماله، أهمها وظيفتان مقيدتان بقيدي التعريف والتنكير، ولذا نورد هاتين الوظيفتين أولا بالقدر الذي يوضح وظيفة كل واحدة منهما من التفصيل، ثم نذكر بأسماء بقية الوظائف مصحوبة بأمثلتها لنرى في النهاية ما ينطبق على النعت الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد مناقشتها في سياق المقارنة بين كتاب موسى، وهذا الكتاب “المُصدِّق” وهذه الوظائف كما يلي :
أولا : الوظيفتان الأساسيتان للنعت.
1- إذا كان المنعوت معرفة، كان النعت (التابع له) فيه للإيضاح : والتفرقة بين (الاسمين) المشتركين في الاسم مثل : جاء يوسف(التاجر) إذ الملاحظ أن اسم يوسف يمكن أن يسمى به أكثر من واحد، لكن أحدهم تاجر والآخر عالم، والثالث فلاح. وهكذا جاء النعت ليفرق بين الأسماء المشتركة في الاسم.
2- إذا كان المنعوت نكرة مثل : زارني رجل (عالم) كان النعت (وهو هنا عالم) فيه للتخصيص، وهو تقليل الاشتراك (أي بين الأسماء التي يمكن أن تسمى بهذا الاسم مثل :”رجل في المثال أعلاه، لأنه يمكن أن يطلق على كل ذكر بالغ من بني آدم فيحصل الاشتراك في التسمية. وهنا نحتاج إلى النعت لنميز كل رجل بصفة خاصة به، فهذا رجل عالم، ـ كما في المثال أعلاه ـ وآخر شاعر، وثالث فيلسوف، وهكذا.. فكل هؤلاء الرجال يشتركون في التسمية ب “رجل” وتأتي النعوت بعدها لتخصص كل واحد بصفته، وبذلك يقل الاشتراك في التسمية ويضعف بحيث نستطيع أن نميز أحدهم عن الآخر بتلك الصفة.
والسؤال أي نوع من بين هذين النوعين يمكن أن نطبقه على الآية : {وهذا كتاب مصدق}؟
-يتبع-
——
1- المنصف لابن جني ح 1.
2- النحو الوقي لعباس حنن.
3- معجم مقاييس اللغة لابن فارس.
4- همع الهوامع للسيوطي. وقواعد اللغة العربية الأساسية للهاشمي.