د. عبد العزيز بنديدي
أعظم اقتداء برسول الله، اتباع منهاجه الدعوي: منذ بعث الله تعالى نبيّه محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام الخاتمة وأمره بتبليغها في قوله تعالى : {يا أيها المدثِّر قم فأنذر} وهو صلى الله عليه وسلم قائم يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة. لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم شُغل سوى الدعوة إلى الله تعالى هي عمله وهي وظيفته، مِن أجلها أُرسل وفي سبيلها عاش، إذ بعد انتصارها وانتشارها اختاره ربه إلى جواره. فقد رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: “لما نزلت {إذا جاء نصر الله والفتح} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وقال: إنه قد نُعِيت إلى نفسي. وفي رواية البخاري أن ابن عباس سئل عن قوله تعالى : {إذا جاء نصر الله والفتح} فقال: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له.
والمسلم مأمور بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله. قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا}(الأحزاب 21). ومن أعظم ما يجب على المسلم الائتساء فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم وظيفته التي اشتغل بها؛ “الدعوة إلى الله تعالى”. قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}(يوسف 108). الآية تؤكد ألاَّ سبيل لمحمد – رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلا الدعوة إلى الله على بصيرة، وألا سبيل لمن اتَّبع محمدا صلى الله عليه وسلم إلا الدعوة إلى الله جل وعلا كذلك.
إن سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه سبيل واحدة لا ثاني لها، وهي سبيل مستقيمة لا عِوج فيها ولا تفرق، قال تعالى “وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله” وهي سبيل واضحة ترك صلى الله عليه وسلم عليها أمتَه بيضاء نقية “ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك”.
واضح إذن أن أعظم تأسٍّ برسول الله صلى الله عليه وسلم مواصلة السير في طريق الدعوة إلى الله تعالى على نفس البصيرة التي سار عليها صلى الله عليه وسلم في دعوته. والاقتداء لا يتعلق بالوظيفة من حيث مفهومها ومضمونها فقط -الدعوة إلى الله- بل كذلك من حيث منهجها، ومنهاجها (=على بصيرة). فالداعية إلى الله ليس حرا في أن يدعوَ بالطريقة التي تهواها نفسه ويختارها عقله ويميل إليها مزاجه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به”. فكما أننا مأمورون بألا نعبد إلا الله وأن لا نعبده إلا بما شرع، فإننا كذلك مأمورون بألا ندعو إلا إلى الله جل جلاله، ولا ندعو إليه إلا بالمنهاج الذي شرع، وهو المنهاج الذي سلكه محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته التي كانت دعوة توقيفية يقودها الوحي ويسددها خطوة خطوة. وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم أصبحت الدعوة توفيقيةيجتهد المسلمون في سبيل الاقتراب من المنهاج التوقيفي الذي طبقه رسول الله صلى الله عليه وسلم تطبيقا عمليا نموذجيا وخلده الوحي للاقتداء والاهتداء به سعيا إلى إصابة السنة في الدعوة إلى الله تعالى.
ومن القضايا المِنهاجية التي يجب أن يحرص المسلمون على الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيها طريقة تعامله مع الخصوم المناوئين للدعوة وكيفية الرد على استفزازاتهم القولية والفعلية والحالية. والمتأمل في نصوص الوحي يهتدي إلى مجموعة من القواعد والتوجيهات تضبط كيفية تعامل الداعية إلى الله مع من يؤذونه ويقفون في وجه دعوته.
للداعية إلى الله رب إن تقرب إليه وتوكل عليه كفاه كيد الكائدين: الداعية إلى الله يستحضر دائما أنه يدعو استجابة لأمر الله {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}. وهو بذلك لا يعتمد على قوته الذاتية بل يستمد قوته وطاقته من الآمر سبحانه وتعالى الذي يكلأه برعايته ويحفظه بعنايته، يجعل له فرقانا يبصره السبيل، ويكفيه شر أعدائه، كل ذلك شريطة الاستمساك بشرعه والثبات على صراطه والاشتغال بدعوة الناس إليه بدل الانشغال برد مناوشات الكفار والمنافقين والرد على ادعاءاتهم وافتراءاتهم وكشف شبهاتهم. والشواهد من القرآن الكريم على ذلك كثيرة. فهل هناك أفظع وأبشع وأشنع ممن يحارب عبدا يصلي لخالقه ويسير على هدى من ربه ويأمر بالتقوى الناسَ من حوله؟ قال تعالى: {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى، أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى}. إن حق من هذا وصفُه وخُلقُه أن يُتبع ويُعان لا أن يحارَب ويُهان. ورغم ذلك جاء التوجيه الرباني واضحا صريحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يُصغي ولا يلتفت لهذا الطاغي وأن يتقرب إلى الله بأنواع الطاعات والقربات وبالثبات على إيمانه ودعوته {كلاَّ لا تطعه واسجد واقترب}.توجيه مماثل ورد في مطلع سورة المزمل. فبعد أن أمر الله تعالى نبيه بتزويد قلبه وربطه بمختلف أنواع الطاقة القلبية من قيام وذكر وترتيل وتبتّل وتوكل على الله، لكي يقوى صلى الله عليه وسلم على حمل الدعوة والسير في طريقها الشاق الطويل، أمره أن يصبر على ما يلقاه من قومه من الاتهام والإعراض وأن يُخلي بينهم وبين خالقهم فهو سبحانه بهم كفيل، يتولى حربهم بنفسه سبحانه. وأنى لهذه الخلائق الضعيفة الهيِّنة أن تقوى على مواجهة الجبار القوي المتين.
الباطل ليس سوى حالة غياب الحق:
يؤكد الفيزيائيون ألا وجود لكائن اسمه الظلام، وأن هذا اللفظ اختُرِع للتعبير عن حالة غياب النور، تماما كاختراع لفظ البرودة للتعبير عن غياب الحرارة فنقول مثلا بأن درجة الحرارة هي عشر درجات تحت الصفر. هذا المنطق ينطبق كذلك على الحق والباطل.
إن مجيء الحق بقوة حجته ووضوح محجته واستقامة منهجه إيذان باضمحلال الباطل وزواله. قال تعالى: {قل جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد}. الحق أصيل والباطل طارئ لا استقرار له في هذا الكون، بل هو مطارَد من قبل الحق عز وجل يقذف عليه بالحق “فيدمغه فإذا هو زاهق” فكيف لشيء يطارده الله تعالى أن يبقى ويستقر؟
وقد يرى بعض الناس -في فترة من الفترات- الباطل منتفشا فيُخَيَّل إليهم أنه غالب، ويبدو لهم الحق منزويا فيظنون أنه مغلوب. والحال أن هذه الغلبة ليست على الحق وإنما على المنتسبين إليه، في ظروف معينة وأحوال محددة يبتليهم الله بغلبة الباطل حينا من الدهر فتنة لهم وابتلاء ليربيهم ربهم ويُنَقِّيهم فيُرَقِّيهم حتى يصيروا أهلا لاستقبال الحق الغالب.
إن الله تعالى تكفل بنفسه بإحقاق الحق وإزهاق الباطل وفق سنة مُطَّردة واضحة مفادها أن الباطل لا يصمد أمام قوة الحق، متى وحيث وُجد الحق زهق الباطل. {وَقُلْ جَاءَ الحقُّ وَزَهَقَ الْبَـاطِلُ إنَّ الْبَـاطِلَ كَانَ زَهُوقا}. فما على المومنين إلا الاستمساك بالحق والصدع به باعتباره حقا لا رد فعل على الباطل، ولا انفعال. فالحق أكبر وأجل من أن يُشتغل به على شكل ردود أفعال، وأهل الحق أحق وأجدر أن يكونوا هم الفاعلين، لهم أهدافهم المحددة وأولوياتهم المرتبة ووسائلهم المعتمدة … لا يزعزعهم عنها أهل الباطل باستفزازاتهم ومكائدهم..
التفرغ للرد على الباطل ملهاة للدعاة ودعاية للطغاة:
في علم الاقتصاد والتمويل مفهوم يُطلَق عليه “تكلفة الفرصة البديلة” ويُستخدم في تقييم أداء الأدوات الاستثمارية واتخاذ القرارات المتعلقة بالاستثمارات المالية. ويقصد بتكلفة الفرصة البديلة قيمة نظرية تساوي القيمة المتوقعة للبدائل المتخلى عنها بسبب اختيار بديل معين. بمعنى آخر أن الاشتغال بأي عمل لا ينبغي النظر إليه وتقييمه فقط من زاوية المردودية المترتبة عليه ولكن كذلك من ناحية الفرص الضائعة من جراء الاشتغال بذلك العمل.
والدعاة إلى الله مدعوون للاستفادة من هذا المنطق الاقتصادي لاعتبارات كثيرة، أهمها أن مجالات وجبهات العمل الدعوي كثيرة ومتنوعة بل تكاد تكون لا حدود لها (تربية، تعليم، ثقافة، عمل خيري، سياسة،…)، وفي المقابل فإن الموارد والطاقات المتاحة لهم (أوقات ووسائل دعوية مختلفة) لتغطية تلك المجالات ومواجهة تلك الجبهات محدودة وثمينة. هذه المعادلة غير المتكافئة تستوجب الاختيار بين المجالات والجبهات الدعوية بناء على سلم أولويات محددة ووفق ضوابط معتبرة، والتضحية بالباقي. ورحم الله من قال:
لو كل كلب عوى ألقمته حجراً .. لأصبح الصخر مثقالاً بدينارِ
لا شك أن التصدي للباطل والنهي عن المنكر من مسؤوليات الدعاة إلى الله تعالى، ولكن يجب ألا يتم ذلك على حساب نشر الحق والأمر بالمعروف باعتبارهما أساس العمل الدعوي، بل إن أنجعَ وسيلة لدحض الباطل ودحر المنكر بناءُ الحق والصدع به كما بينَّا ذلك أعلاه.
أما الرد على الشبهات والأباطيل فإنه كثيرا ما يحوِّل بعض الناس من “نكِرات” لا يكاد يعرفها أحد إلى “أسماء” تلوكها الألسُن في المنتديات ويروَّج لها عبر وسائل الإعلام وهذا أقصى ما تتمناه نفوسهم المريضة. إن أفضل طريقة للرد على هؤلاء وإغاظتهم تجاهلهم والاشتغال بالأفيد للأمة والدعوة. ورحم الله القائل:
إذا نطق السفيه فلا تُجبه
فخير من إجابته السكوت
فإن كلَّمته فرَّجت عنه
وإن خلَّيته كمداً يموتُ.