الحب في الله هذه القيمة الغالية الغائبة
ذة. فوزية حجبي
من المقالات العميقة التي قرأتها مؤخرا، مقال للكاتب العراقي أديب الصباغ بمجلة ((حراء (( تحدث فيه عن مفهوم الغربة ودلالاتها الإيجابية في حياة المسلم باعتبارها مؤشرا على سلامة إيمان المرء إذ تتعارض قناعاته العقدية وقيمه الروحية المرتبطة بالله عز وجل مع قيم الحضارة المادية المبنية على الأنانية والنفعية، الشيء الذي يتولد معه الشعور بالغربة ، وهذا الشعور قد يكون مدعاة إلى الانطواء والانعزال حين يكون الفرد مفتقدا للحس الرسالي، أما في حالة التزام الفرد بالعقيدة الإسلامية الصحيحة المبنية على مفهوم الإيمان المقرون بالعمل الصالح ، فإن غريب الأمة يغدو (( مستطاب الغربة ((وبمثابة ((حاسة الأمة السادسة(( في سعيه لوضعها على سكة الصراط المستقيم كما يقول الكاتب أديب الصباغ.
وقد رجتني بل وآلمتني في مطالعاتي الأخيرة ، دراسة أكاديمية لظاهرة انتحار مشاهير الغرب من عظماء ومفكرين وفنانين ، وكان لافتا حجم الجنوح الفكري المعجون بمشاعر القلق الذي يدفع بهؤلاء المشاهير إلى الزهد في الحياة والتفكير في التخلص منها ، ويستوي في ذلك المثقفون والعوام، وهم كثيرون نذكر من بينهم الكاتب الأمريكي إرنيست همنجواي والكاتب النمساوي ستيفان تسفايج والكاتب القصصي إدكار ألان بو والفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير إلخ ومن الأغنياء المليارديرة كريستيان أوناسيس وغيرها…، أما عن مشاهير الفن الغارقين في الثراء الفاحش والذين يقتلون أنفسهم بالارتماء من شاهق أو أخذ جرعات زائدة من المخدرات والكحول فحدث ولا حرج ..
وظاهرة الانتحار هذه من أوضح الدلالات على إفلاس المنظومة المادية التي اعتمدها الغرب في إقلاعه الحضاري، إذ أسفر التهليل والتكبير للمنجزات العلمية والتكنولوجية التي بشر بها الغرب العالمين واعتبرها بمثابة الخلاص من عذابات الإنسانية ، عن ظواهر مؤلمة من النكوص والتردي في غياب الدين رغم كل المساحيق التجميلية ، وشعارات التغني بالحرية والحقوق والحب في كل مظاهره حتى الشاذ منها، التي ظل الغرب يسوقها للعالم باعتبارها قيما كونية ، فجاء انتحار زبدة المجتمع من الذين وضعوا الأسس الفكرية لتقدمه مُرفَقا بشهاداتهم القوية حول رفضهم لهذه القيم عند موتهم ليضرب برصاص الحق فقاعات التفوق الحضاري الغربي المجرد من قيم الدين الشمولي في تنظيمه لكل مظاهر الحياة.
فلا الفكر الذي أطر هذا التقدم نفع مروجيه بله الحائرين من العوام، ولا مظاهر الترف الفاحش أنجت من مشاعر الاكتئاب والقلق والوحشة ، ولا هي سكبت السعادة المبشر بها في الأنفس الشقية المعرضة عن ذكر الله تعالى {ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور}.
وإذا كانت حضارة القلق هذه كما يسميها عالم النفس سيجموند فرويد وحضارة العبث واللا جدوى كما يسميها الفلاسفة الغربيون الوجوديون قد أفرزت كل هذه المظاهر السلبية علما بأننا لسنا بصدد شيطنتها ورفضها بالمطلق فلمساتها العلمية الإيجابية حاضرة في الكون كله، فإن حضارتنا الملقحة ضد عوامل الهدم الذاتي هذه يجب أن تكون ملاذ كل الحائرين من الغربيين.. وعلى المسلمين الراشدين مفكرين وعاملين في حقل الدعوة والتنمية البشرية وحقول المعرفة الأخرى أن يطوروا أداءهم ومستوى عطائهم في عرض سلعة الله الغالية بابتكار طرق وأساليب أكثر جاذبية وإغراء لاحتضان آلاف الحيارى والأشقياء نفوسا من الغربيين ، مع استحضار قيم التسامح والرحمة والحب في الله سبحانه لاستنقاذهم من إشعاعات الحب في النفس، الذي خلف كل هذه الخسارات في الأرواح .
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حزن وتألم لموت يهودي على غير دين الإسلام، وهو الذي عذب وسفه وحقر مع صحبه الكرام ، ليصلنا الدين على آنية من ذهب ، فكيف بحالنا نحن الذين يموت بيننا في مجتمعنا الإسلامي ومن أبناء جلدتنا العشرات من المنكرين لدين الإسلام، بل ومن المدافعين عن التنصير وقيمه المسيحية المبنية على تعاليم مزيفة بل المنتصرين لقيم الإلحاد ونفعها للعالمين يا حسرة!
ومقابل هذه الصورة القاتمة، هناك ثلة من المفكرين والعلماء وحتى من الساسة الغربيين كانوا أكثر شجاعة وجسارة لاستجلاء الحق ، وقادتهم حملة بحثهم وتأملهم في قضايا الوضع الإنساني إلى موطن الداء وتوصلوا إلى التشخيص الناجع لآلام الإنسانية الجديدة التي دججت بيوتها وفضاءاتها بأرقى وسائل التكنولوجيا لتيسير الحياة البشرية وأهملت روحها فغيض ماؤها وجف ضرعها فتسرب الجفاف إلى الجسد كله وكانت النتيجة أن استوطن القلق والإحساس بالعبث والفراغ والسأم نفوس الحائرين وباتوا ينشدون الخلاص في الانتحار بكل أشكاله ..
وحول مسار هؤلاء المعتنقين الصادقين سنتوقف في حلقات قادمة بإذن الله لنضرب عصافير (بالخير طبعا) بحجر خير واحد، ليعرف المشككون في عظمة هذا الدين من أبنائنا حجم خسارتهم، إذ يتمسك بهذا الدين الغرباء، مواجهين كل عواصف الاستنكار من ذويهم في حين يشحذون هم الأبناء سيوف الاستهزاء والاحتقار والتشويه ، معرضين بل جاهلين بقوله تعالى {إن الله بالغ أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.