ذ. رشيد المير
تعددت النوافل وتشابهت في الخيرات، وتفرد الصوم بسر الانتساب الخالص إلى الله!…لذلك جاء في الحديث القدسي”(1)…إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به!”(2).
التقاء الصيام بالمجاهدة والجهاد
فرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة بالمدينة المنورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة : 183). وهي نفس السنة التي شرع فيها الجهاد {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(البقرة : 216).
فالصيام بما أودع الله فيه من أسرار يزكي العبد ليصير جنديا لله،عبدا طائعا لله. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم إلتزام هذا السبيل الذي يرقي العبد إلى مقامات البذل والعطاء من التخفف بمن الملذات إلى الجود بالذات.
عَنْ أَبي هُريرَةَ رضي الله عنه، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : ((أَفْضَلُ الصِّيَامِ بعْدَ رَمضَانَ : شَهْرُ اللَّهِ المحرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْد الفَرِيضَةِ : صَلاةُ اللَّيْلِ))( رواه مسلمٌ).
عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ رَضي اللَّه عنهُما، قالَ : قالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ((صوْمُ ثلاثَةِ أَيَّامٍ منْ كلِّ شَهرٍ صوْمُ الدهْرِ كُلِّهُ))(متفقٌ عليه).
من مقاصد الصيام وتنزل القرآن
إن الهدف الأسمى للصوم هو بلوغ مقام التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)”(البقرة ) وهذا الهدف هو إحدى مقاصد تنزل القرآن الكريم ” وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) (طه)
فالصوم يُربي في الفرد ملكة التقوى من خلال عملية مُزاولة الكف والامتناع المُستبصر ومُراقبة الله في السر و العلن ليكون العبد في تمام جاهزيته . وهذا النوع من التقرب ينمي في الفرد صفة الشعور بالمسؤولية والمراقبة الذاتية للقول والفعل بكل انسيابية وطواعية دون انفعال أو تكلف.حتى يصير لشعوره وانفعالاته وردود أفعاله النابعة من لاوعيه وعقله الباطني كلها على نمط واحد دون انفصام في الشخصية بل يكون الحال في انسجام تام مع المقال.((إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم))(3) رد فعل تلقائي في حالة الغضب وإن المداومة على هذا اللون ألوان من المجاهدة يرقي العبد إلى مقام الملائكة حيث تصفو فيه روحه و يتقذ فيه إدراكه ويتخفف من أثقال الطين ليعرج إلى مدارك الأنوار…فيكون قلبه اقرب إلى فهم كلمات الله وتذوق جمالية الفرقان والتحقق والتخلق به على نهج سيدنا محمد (الذي “كان خلقه القرآن” و كان إمام المتقين.
ثمار الالتقاء بين الصيام والقرآن
وهذه التقوى، هذا النوع من أنواع التقوى يُثمِرُ للعبد ويُوجِد في نفسه فرقانا ونورا وبصيرة، قال تبارك وتعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}(الأنفال : 29) أي يورثكم ذلك بصيرة تكشفون بها السَّير، وتخرجون بها في المُدْلَهِِمَّات المُرتبكات، أي يجعل لكم نور هداية، وصفاء فكر، وجلاء بصيرة، وذلك عندما تنقشع وتزول سُحُب الشهوات عن سماء النفس، فتصبح ترى البينات بينات، وترى الحق حقا، ولا يخدعها الشيطان بتزييفه وتضليله. وبهذا يلتقي فُرقان الصدق في الصوم بفرقان الحق في القرآن قال تبارك وتعالى : {وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يُحدثُ لهم ذكرى}، فيتم اللقاح الُمفضي إلى قمة الفلاح {والذي جاء بالصدق وصدقبه أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون}(4).
أ- الوصول إلى مقام الإمامة :
و اعتبارا أن هذا الشهر هو شهر الصبر، والصبر ضياء وثوابه الجنة، فإن العبد الذي يزكو في مدارج السالكين مجاهدا ذاته في ذات الله مقبلا عليه محتسبا كل ما يلاقيه في طريق ذات الشوكة لله…
حيث يتزود الموفق من عزمات صيامه، ومن نسمات قيامه، أرصدة من الصبر الجميل والذكر الجليل، الذي تزكو به نفس المنيب وتسمو إلى مستوى التقريب {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة: 186).
وبالصبر على التقوى تستقيم خطى العبد على سواء الطريق، وببصائر الذكر ويقينه يحيا الضمير ويستفيق، وبهذين الجوهرين صبرا ويقينا يتحقق المؤمن بكمال شخصيته ويتأهل لمقام إمامته المشار إليه بقول الباري جل وعلا : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(السجدة : 24).
—–
1- ميثاق العهد .فريدالأنصاري
2- رواه مسلم /3- أخرجه البخاري ومسلم
4- من خطبة الجمعة للشيخ مصطفى البحياوي).