بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشَداً، اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا علماً، اللهم افتح لنا أبواب الرحمة وأنطقنا بالحكمة واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة.
سورة القدر مكية في قول الجمهور، وموضوعها أساساً بآياتها الخمس هو الحديث عن فضل ليلة إنزال القرآن الكريم إلى الأرض، إلى العالمين، وهي ليلة القدر.
نظرات في المعنى الاجمالي للآيات
تبتدئ السورة بقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، حيث يتحدث الله بعظمته جل جلاله بنون العظمة مؤكِّداً لمن يحتاج إلى هذا التوكيد أنه سبحانه وتعالى هو مُنزِل القرآن لا سواه، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}. وكما هو واضح فإن الله تعالى لم يقل”إنا أنزلنا القرآن”، بل قال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، وفي كلام العرب إذا كان هناك شيء مهمّ لا يحتاج إلى أن يُشار إليه مباشرة أو أريدَ أن يُنبَّه على ذلك فإنه يُبهَم، ويكون الإضمار محلّ الإظهار، تنبيهاً على أن هذا الأمر في غاية الظهور وفي غاية الوضوح، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، ولذلك فإن الإضمار هنا لبيان الأهمية، ولأن كتاب الله عزّ وجلّ، ولأن القرآن الكريم، ولأن الوحي النّازل من عند الله عز وجل هو أظهر ما كان في تلك البيئة التي كان يتنزَّل فيها، وهو أظهر شيء بعد ذلك حتى تقوم السّاعة، لا أهمّ من القرآن اليوم وقبل اليوم وبعد اليوم حتى تقوم الساعة، وسنرى في هذه السورة ونحن نتدبَّر معانيها أن الكون كله يحتفل بنزول هذا القرآن، الكون كلّه دخل في احتفال شامل عامّ جامع، احتفاءً بنزول هذا القرآن، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}.
ثم عقَّب تعالى {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، هذا تعبير عربي فصيح، وحسبنا أن الله جلّ جلاله اختاره في كتابه الذي أُنزل بلسان عربي مبين، وهو أفصح كلام سمعه العرب وعرفوه، {وَمَا أَدْرَاكَ} تعبير في صيغة سؤال يُقال عند تفخيم أمر وبيان أهميته، والمعنى هنا؛ أي شيء يُشعِرك ويُدريك أن ليلة القدر ما هي، ما هي ليلة القدر؟ شيء مهم جدا ليلة القدر! {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، التنبيه في صورة سؤال، والجواب {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، لها قيمة عظيمة جدا، هي ليلة واحدة، ولكنها أفضل من ألف شهر ليس فيه ليلة قدر، ليلة واحدة هي عند الله تعالى في الثواب وفي الأجر خير من ألف شهر، والعمل فيها أفضل من العمل في ألف شهر، وألف شهر أحصاه بعض العلماء، وإحصاؤه سهل على كل حال، فهو ثلاث وثمانون سنة وثُلثا سنة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أعمار أمتي بين الستين والسبعين، وهذه ليلة واحدة تعدل أكثر من ثلاث وثمانين سنة في الأجر، ألا نفهم من هذا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قام ليلة القدر إيماناً واحتسابا غُفر له ما تقدّم من ذنبه))؛ ما تقدم في حياة الإنسان وهو قادر مطيق قوي يستطيع القيام بجميع الأعمال الصالحة وغيرها، وعادة ما يكون في وقت الشباب، أو على الأقل دون الثمانين. وهذه ليلة واحدة تساوي في الأجر أكثر من ثمانين سنة.
وبين الله تعالى لماذا اختار هذه الليلة ليُنزِل فيها القرآن، وجعلها خيراً من ألف شهر.
> فقال: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، {تَنَزَّلُ} أي “تتنزّل” بحذف تاء المطاوعَة، و”التنزُّل” يكون بالتتالي والتتابع، أي نزول يتبعه نزول يتبعه نزول يتبعه نزول، فهو تنزُّل، كالإنزال الذي يتبعه إنزال يتبعه إنزال يكون تنزيلاً، فتنزُّل الملائكة معناه فوج بعد فوج بعد فوج بعد فوج طيلة الليلة حتى مطلع الفجر. و”حتى” لإدخال الغاية، ولذلك أخذ منها العلماء أن صلاة الصبح في ليلة القدر، الصبح الذي يأتي في نهاية ليلة القدر داخل في ليلة القدر، بهذه الـ”حتى” {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، وهذا من فضل الله تعالى على عباده. ما أكثر الملائكة! “أطَّت السماء وحُقّ لها أن تئطّ، ما من موضع قدم إلا وفيه مَلك ساجد أو راكع”، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أكثر الملائكة! وهم يأتون في هذه الليلة أفواجا بعد أفواج إلى الأرض، وما ألطف ما قال بعض العلماء ولعله الرّازي، قال: “إن هذه الليلة مُعظَّمة في الأرض، والملائكة تلتمس الخير أينما كان ولذلك تحفّ مجالس الإيمان وتأتي إلى حِلَق الذِّكر، فحين علمت أن هذه الليلة في الأرض سيكون فيها هذا الخير العظيم فهي تتنزّل أفواجا لتشهد هذا الخير أيضا”، هذا من اللطائف التي قيلت في هذا التنزل. وليس الملائكة فقط هي التي تتنزل، بل أيضا الرُّوح، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا}، الرُّوح في هذا السياق هو جبريل عليه السلام، ولأهميته الكبرى ولمنزلته العظيمة عند الله تعالى، أثنى عليه الله تعالى، ونوَّه به جل جلاله في آيات متعددة، وهو أمين الوحي، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الامِينُ عَلَى قَلْبِكَ}، مُيِّز من بين الملائكة لتميزه أيضاً في ما آتاه الله، فكأنه قال: الرُّوح أيضاً نزل. وكلمة “الروح” يتبعها ما يتعلّق بالحياة بصفة عامة. فقد وُصف عيسى عليه السلام بأنه روح الله وكلمته، لأن الله آتاه القدرة على الإحياء، {وتحيي الموتى بإذني}، ووُصف القرآن بالرُّوح {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ امْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الايمَانُ}، لأن هذا القرآن يحيي الله به الأموات، أموات القلوب؛ {أَوَمَنْ كَانَ مَيِّتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}.
وسُمّي جبريل عليه السلام بالروح لأنه حامل الروح، أي الوحي، فبالوحي تحيى القلوب، وبالوحي يحيى الناس، وبالوحي يحيى الخير كلّه ويموت الشر كلّه. الخير كله في هذا الوحي الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى.
> {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}، ولقد قال الله سبحانه وتعالى بلسان الملائكة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}، وهاهنا جاءت الكلمة {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} وليس “بأمر ربكم”.
ومن اللطائف التي ذكرها بعض العلماء أن الملائكة استأذنوا الله جلّ جلاله فأذن لهم في أن ينزلوا إلى الأرض ويَشهدوا هذه الليلة ، ويرَوْا الإنسان الذي قالوا عنه قبل {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} إلى آخر الآيات، حين بيّن لهم الله أن هذا الإنسان أيضاً له خصائص يتميز بها، وأنه يمكن أن يصدر منه خير كثير أيضاً، فلينظروا هذه الليلة التي يُحييها عبادُه المؤمنون، يقومون فيها لله إيمانا واحتساباً.
{تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، بكل أمر أو من أجل كل أمر، أو جميع الأمور. والذي يبين هذه الآية هنا هو آية سورة الدخان، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}، هي ليلة مباركة، ومن بركتها ما وُضِّح قبل هي خير من ألف شهر، وفيها يُفرَق كل أمر حكيم، كل أمر يُفرق في تلك الليلة حتى السنة القادمة حتى الليلة القادمة في السنة القادمة وفق الحكمة، يُفرَق إظهاراً لذلك لا على أن الأمر لأول مرة يحدث بل كل مُقدّر عند الله في الأزل ولكن إظهار المقدور يكون في هذا الذي يُفرَق.
> {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، {سَلَامٌ هِيَ}، هي سلام، قُدِّم الخبر للقصر، كأن الله جلّ جلاله قال لنا: “ما هي إلا سلام”، كلها سلام، الليلة بكاملها من أولها إلى آخرها هي سلام، ليس فيها إلا الخير، حتى مطلع الفجر.
نظرات في ليلة القدر وصفاتها
وحين نتأمل هذه السورة بعض التأمل من حيث العناصر المكوِّنة لها نجد أن الله تعالى ميّزها بأمور أعطتها صفات يمكن أن نستخلصها لهذه الليلة.
فهي أولا ليلة النُّور، لأنها ليلة إنزال القرآن، والقرآن نور {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}.
وهي ثانيا ليلة البركة، صُرِّح بها في الآية الأخرى من سورة الدخان {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}، وهاهنا بُيِّن مقدار هذه البركة، وأنه كبير جدّاً. ويُذكَر -أو أصح ما يُذكر- في سبب نزول هذه السورة ما ورد في الموطأ للإمام مالك رضي الله عنه، أنه سمع ممن يثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُريَ أعمار أمته وأعمار القرون والأمم الأخرى، فتقاصر أعمار أمته، أي رأى أن أعمار أمته قصيرة، فهي بين الستين والسبعين، ونحن نقرأ عن النبي نوح : {فَلَبِثَ فِيهِم أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا}، كأنه قال: أمتي بين الستين والسبعين، فكيف يُدركون الأمم الأخرى في الأجر؟ وكيف يبلغ مبلغَهم أتباعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وناس هذه الأمة؟ فأعطاه الله عز وجل ليلة القدر، ليلة القدر إذا أُدركَت سنة واحدة كفت الإنسان همّ عمره كله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم كما سبق الذكر: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه)). وهاهنا بعض التوضيح في أمر ليلة القدر لا بأس من ذكره، وله ارتباط باهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحلال القرآن الذي ينزل عليه في الواقع العملي؛ وهو أنه صلى الله عليه وسلم التمس هذه الليلة معتكفا في أول حياته في العشر الأول من رمضان، ثم نزل عليه جبريل فقال له: الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الثانية من رمضان فقال له أيضاً: الذي تطلبه أمامك، فاعتكف العشر الأواخر، ثم التزم ذلك حتى آخر حياته، إلا ما هو معروف من أنه في السنة الأخيرة اعتكف عشرين يوماً. ومعلوم عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخلت هذه العشر أحيى الليل، وشدّ المئزَر، (والإزار هو الذي يكون على الوركين) وأيقظ أهله. وهاهنا نُكتة لطيفة لم أر من المفسرين من ذكرها إلا ابن عطية رحمه الله، نكتة في غاية الأهمية والله أعلم، هي أن العدَّ في الشهور من الآخر، أي أن العشر الأواخر تُحسَب من آخر الشهر لا من أوله، والشهر ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون يوماً، فإذن هي متحرِّكة حتى لو افترضنا، وأنها على الراجح، في الليلة السابعة والعشرين أو في ليلة اليوم السابع والعشرين، هذا بالعدّ من البداية حسب ما نعدّ الآن، ولكن كان في عدّهم، وحتى في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى))، فالعد من الآخر لا من الأول. ولذلك فالمنهج الصحيح هو ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم من أنه لم يكن يُفلت أي ليلة سواء أكانت وترا أم شفعاً، لأن ما يُعتبر وترا إذا كان الشهر ثلاثين يكون شفعا مثلا إذا كان الشهر تسعة وعشرين والعكس بالعكس، فإذن إذا أراد الإنسان الاحتياط الكامل فإنه يحتاج إلى أن يُحيي هذه العشر بكاملها كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم، وهذه الطريفة لأهل الاحتياط مهمة جدّاً. المهم أن هذه الليلة ليلة البركة، هي ليلة مبارَكة إلى حدّ كبير، ولا بأس أن أقول بالنسبة للآية الكريمة الواردة في سورة الفجر: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، إذ المرجح أن الليالي العشر هي الليالي الأخيرة كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء. وبعضهم رجح أنها الأيام العشر من ذي الحجة، ولكن التعبير القرآني صريح بأنها ليال، أما الأخرى فهي أيام وليست ليال، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا}، الليال هي الليال. والآن إذا ربطنا بين هذا الكلام وبين هذه الأفضلية التي هي ليلة واحدة خير من ألف شهر ليس فيه ليلة القدر، يصير الكلام في غاية الوضوح. يوم عرفة لا يوم مثله ولا يوجد يوم في قيمته أبداً، ولكن اليومَ النهارُ، وهو يوم الوقوف بعرفة وليس الليل. إذن فالليلة التي هي في منزلة عالية جدا لا نظير لها هي ليلة القدر، وهي ليلة إنزال القرآن الكريم.
وهي ثالثا ليلة الطُّهر، ليلة القَداسة، لأن الملائكة يملأون الأرض في تلك الليلة، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ}، تبيت تتنزل من أول الليلة حتى مطلع الفجر، والملائكة هم نموذج الطُّهر، فهم {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُومَرُونَ}، الملائكة نموذج المخلوقات التي لا تعرف إلا الطاعة، طاعة الله جل جلاله، ولا تعرف إلا عبادة الله جل جلاله؛ هذه الليلة يكون فيها مهرجان ضخم في الكون، ليلة متميّزة كل التميز، الملائكة تنزل طيلة الليل، ثم تعرج بسرعتها التي لا نعلمها، والتي هي قطعا أعلى من سرعة الضوء، {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} هذا بسرعة الملائكة، خمسين ألف سنة بسرعة الملائكة، تُرى كيف هو الزمن الملائكي!؟ الزمن الذي نعرف الآن أقصى ما عرفنا هو زمن الضوء الذي الثانية الواحدة فيه تُساوي ثلاثمائة ألف كيلومتر، وما عُلم من الكون كما هو معروف حتى الساعة يُقدَّر بخمسة عشر مليار سنة ضوئية، وهذا المعلوم قد لا يُجاوِز السماء الأولى، أيُّ عظمة لهذا العظيم سبحانه وتعالى! سبحان ربي العظيم وبحمده. هذه ليلة الطُّهر وليلة التقديس وليلة العبادة، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}.
وهي رابعا ليلة الخيرات، وليلة توزيع الخيرات، ولا يُوزَّع فيها إلا الخير، هذا من جملة ما أخذ العلماء من {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
وهي خامسا ليلة السلام ليس فيها ما يُؤذي، ليس فيها ما يَضُر، فيها ما ينفَع، وجميع ما يضر يُكبَّل ويُصفَّد، ولذلك فهذه الليلة ليلة السلام، {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}.
نظرات في علاقة القرآن بليلة القدر
إذا كان القرآن أُنزل في ليلة النّور وأُنزل في ليلة البركة العظيمة، وأُنزل في ليلة الطُّهر، فـ {لا يمسه إلا المُطهَّرون}، وأُنزل في ليلة الخير، وهو الخير، {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير}، والخير هو خير الإسلام الذي أساسه القرآن الكريم، وأُنزل في ليلة السلام، فكيف تكون نتيجته في الأرض؟ لا شك أنها ستكون كبيرة وعظيمة. هذا القرآن إذن هو من أعظم ما تتجلّى فيه عظمة الله سبحانه وتعالى، هذا القرآن عَظُم به الزمان، وبسبب القرآن مُيِّز شهر رمضان، واحتُفل بالقرآن وبنزول القرآن في ليلة إنزال القرآن بصيام شهر رمضان، والقرآن جِماع الوحي، كلّ الكتب نزلت قبل في رمضان، والقرآن مُصدِّق لما بين يديه {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}، فهو جماع الوحي.
وإذن احتفاءً بهذا الخير العظيم وهذه الرحمة الكبيرة التي جاءت من عند الله عز وجل، كان فَرض صيام رمضان، وكان تمييز شهر رمضان بنزول القرآن الكريم. {الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ}، هذا أهم شيء يُعرِّف شهر رمضان. وشهر رمضان احتفاءُ ذكرى يسُنّ بها الله جل جلاله لنا في هذه وفي غيرها، كيف نحتفل بالأمر العظيم في ديننا، وبين أن الاحتفال يكون بالصيام، كما هو الأمر في عاشوراء، حين أغرق الله فرعون وآله وأنجى موسى ومن معه، يُحتفل به صياما شكرا لله سبحانه وتعالى.
إذن كيف يُحتَفل بليلة القدر؟
يُحتَفل بها قياماً لله سبحانه وتعالى، لا يُحتَفل فيها بالأجواق، أو يُحتَفل فيها بالمصائب، على جميع المستويات لا في الإعلان ولا في الشوارع ولا في غيرها، يجب أن نستهدي بهدى الله سبحانه وتعالى فنحتفل برمضان كما أمرنا الله عز وجل، ولا نحتفل كما يحتفل اليهود والنصارى.
إن هذا القرآن الذي أنزل في شهر رمضان رفع الله به الزمان، ورفع الله به المكان، فالبيوت التي أَذِن الله أن تُرفَع ويُذكر فيها اسمه، بسبب هذا القرآن هي بيوت الله جلّ جلاله مخصَّصة لذكر الله، ورأس الذِّكر القرآن، {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ}، وكل ذِكر مأخوذ من هذا الذِّكر، كان تسبيحا أو تهليلا أو تحميدا أو تكبيرا أو أي شيء هو مأخوذ من هذا الذكر، كل ذِكر أصله من هذا الذكر، وهذه البيوت وُضِعت لذكر الله، و((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفّتهم الملائكة وذكرهم الله في من عنده))، فبسبب القرآن رفع الله هذا المكان، فأصبحت المساجد خير البِقاع، وخير المساجد أول بيت وُضع للناس، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا}.
وبالقرآن يرفع الله تعالى أقواما، كما قال صلى الله عليه وسلم ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين))، بهذا الكتاب وُضع أبو لهب {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} رغم أنه سيد من سادات قريش، ووُضع أبو جهل وغيره.
وبهذا الكتاب رُفع بلال بن رباح وهو عبد، كان عبدا للبشر، فصار عبدا لله، وكانت كلمته الخالدة التي هي شعار التحرير من الطواغيت “أَحَد، أَحَد، أَحَد”، هذا الكتاب به يكون الرَّفع وبه يكون الخفض، والمرفوع من رَفعَه الله جل جلاله، والمخفوض من خفضه الله جل جلاله، وإن الرّفع الذي رفع الله به الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، كان بهذا القرآن، والرفع الذي كان لهذه الأمة في التاريخ يوم كانت خير أمة أُخرجت للناس، كان بهذا القرآن، والخفض الذي يُوجد اليوم والذي نحن فيه أدنى من البحر الميت، مخفوضون تحت البشرية بسبب القرآن أيضاً، أي بسبب هجر القرآن، فعاقبنا الله بذلك. لقد منَّ الله جل جلاله علينا بهذا القرآن وأكرمنا به لنرتفع ولنُذكَر {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ}، ولكن إذا أُدبِر عن هذا القرآن، وأُعرض عن هذا القرآن، وهُجر هذا القرآن، والتمس الناس الهدى في غيره أضلهم الله تعالى، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا بهدى هذا القرآن، وأن يُكرمنا بالتخلّق بهدى هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إن هذا القرآن لا نقدره قدره أيها الأحبة، هذا القرآن هو الذي أخرج الأمة أول مرة من الظلمات إلى النور، وأخرج خلائق بالملايين من البشر من الظلمات إلى النور حين استمسكوا به، وأنصَف المظلومين، ومكَّن للخير وأهله، وزلزل الباطل وأهله، وفي كل مرة يأتي من يستمسك بهذا القرآن ويُمسِّك، كما قال الله جل وعلا {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ}، يأتي من يُمسِّك بهذا الكتاب، فإن الله عز وجل يرفعه {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُومِنِينَ}، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاشْهَادُ}، {وَأَنْتُمُ الاعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُومِنِينَ}.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى، اللهم اهدنا وسددنا ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين ولا أقل من ذلك، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين يعملون به في الدنيا، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم اجعلنا من عبادك الذين رفعتهم بالقرآن، ولا تجعلنا من الذين وضعتهم بالقرآن، اللهم ارفعنا بالقرآن، وانفعنا بالقرآن، واجعلنا من عبادك الذين تحبهم ويحبونك ورضيت عنهم ورضوا عنك، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
——-
() هذه المحاضرة ألقيت بمسجد البركة بمدينة فاس ضمن سلسلة نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور حسب ترتيب النزول، آعدها للنشر د. عبد الرحيم الرحموني.