الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيرا بين يدي الساعة. من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله تعالى ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله تعالى شيئا.
إن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله :
قد علمتم أن الصيام يربي الروح ويلجم النفس ويهذب المشاعر، ويلطف من قوة الشهوات، ويقوي الرغبة في ترقي درجات الإيمان بأعمال البر وأقوال الخير، ويَسْد الإرادة، ويشحذ العزيمة على التحرر من الشوائب والدنايا.. يحفظ ذلك وينميه في الكبار، ويرسخه ويزينه في الصغار، وبتلك الفضائل وغيرها كان الصيام مدرسةً تربوية ربانية، دعانا الله تبارك وتعالى إلى تجديد التربية فيها مرة كل سنة، لنبقى أقوياء على تحمل الأمانة العظمى، قادرين على مواجهة التحديات التي يدبرها لنا الكائدون سراً وعلانية.
عباد الله : إن أعداء الإسلام لما عجزوا عن منع المسلمين جميعا عن الصيام، فكروا في إفساد صيامهم وبالغوا في المكر بهم، إنهم قصدوا إفساد آثار الصوم. وثماره وذلك كمن ترك شخصاً يغرسُ الأشجار ويسقيها، ويتعهدُها وعندما تُزهرُ وتثمرُ، يأتي بمواد ضارة يرشها على ثمار الأشجار فتفسدُ وتسقط، فلا ينتفع بها صاحبها، ويذهب جهده سدى وإذا كنتم قد علمتم مفسدات الصوم كما يذكرها الفقهاء، فإن الأعداء أنتجوا لنا مفسدات أخرى وسلطوها على روح الصوم وثمارِه، وزينوها لنا، فأخذناها منهم، وصرنا نفسد صيامنا بأنفسنا، ونخرب تربية المدرسة الربانية بأيدينا، فانطبق علينا قوله تعالى : {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيد المومنين…}.
إنكم تعلمون عباد الله أن بعض الأندية والفنادق والمخيمات تجتهد وتنشط نشاطاً زائداً ومتنوعاً في ليالي رمضان، وتنشر الدعوى بعبارات فيها اعتداء على شهر الصيام، وسخرية مقيتة، بروح هذا الشهر وبركته، وسفاهة موجهة ضد توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصوم : أي رب، منعتُه الطعام والشهواتِ بالنهار، فشفِّعْني فيه، ويقول القرآن : منعتُه النوم بالليل فشفِّعْني فيه، فيُشَفَّعَان))(رواه أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه)، ويقول صلى الله عليه وسلم : ((من قام رمضان إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))(أخرجه الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه) لكن السفهاء الذين سخرهم الأعداء، أو دفعهم الحرص على الكسب الحرام من كل وجه يقولون : بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك ينظم النادي الفلاني أو المكانُ الفلاني أو المخيم الفلاني سهراتٍ، ورقصات وأغاني متنوعة ويرحبون بالناس جميعا لهذه القاذورات والمباءات، هكذا بوقاحة يدعون المسلمين الصائمين إلى قتل ليالي رمضان، وإطفاء أنواره، وإفسادِ ثماره، بشرب الخمور، وأكل لحوم الخنزير، والتمرغ في أحضان الفواحش المتعددة، ويسمونها أحلى الأوقات، وذلك كل ليلة بعد التراويح طلية شهر الصيام! وليت هذا لم يكن في بلد عرف عبر التاربخ بحرصه على الإسلام، ألا ينطبق على هؤلاء المارقين وأمثالهم في كل مكان قول الله تعالى عن اليهود : {وقالت طائفة من اهل الكتاب : آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، واكفروا آخره لعلهم يرجعون}.
عباد الله : إن الله عز وجل يقول : {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالان باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها، كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} فأين يعتكف هؤلاء المارقون ومن هم الذين يستجيبون لدعوتهم الفاجرة؟ أليست الدعوة إلى الفجور والفسوق وإفسادِ ثمرة الصيام مناقضةً لدعوة الله والرسول؟ أليس هذا إفساداً في الأرض بعد إصلاحها؟ إن هذه الإعلانات والإشهارات والدعوات، سواء كانت من أماكن تجارية خاصة، أو من دار الإذاعة والتلفزيون أو من جهات أخرى إنما هي وجه آخر للحرابة والفتنة والإفساد في الأرض وإتلاف أعزِّ وأنفس شيء عند المسلمين في هذا الشهر، ألا وهو روح الصوم وثماره، ولا عذر لهؤلاء الساكتين المفتونين في أنفسهم وعقيدتهم وأبنائهم! فهذه حدود الله تنتهك، وهذه محارم الله تداس، وهذه الألفاظ المقدسة يُستخف بها، ولو وقع هذا الاعتداء على لفظة مقدسة عند اليهود لأقاموا الدنيا وما أقعدواها، وهذه التربية النبوية يُستهزأ بها، ولا من يغضب لله ورسوله، لا من الحاكمين ولا من المحكومين!! إن كل الحدود المادية محمية ومراقبة وكلّ الحقوق الخاصة تحظى بالعناية والصيانة كلاّ أو بعضا، إلا حدود الله، إلا حمى العقيدة والأخلاق، فهو ينتهك من كل جانب وهكذا تحل عرى الإسلام على يد المسلمين أنفسهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم إليك نشكو ضعفنا وعجزنا وخورنا، فَقَوِّ إيماننا، وألهمنا رشدنا، وارزقنا حب الشهادة في سبيلك على يقين وعلم، يا أرحم الراحمين، آمين والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على نبي الرحمة والهدى، وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، وبعد :
إن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وشرّفه الرحمن بالليلة المباركة ليلة القدر، لا يليق بأمة تزعم الإسلام والإيمان بالقرآن أن تكثر فيه من المعاصي أكثر من غيره من الشهور، وهي تعلم عنه أنه شهر التوبة والتطهير، شهر التربية والرضوان، شهر الإحياء والتجديد.
عباد الله : كثيراً ما سمعتم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : ((قد جاءكم شهر مبارك، افتُرض عليكم صيامُه، تُفتح فيه أبواب الجنة وتُغلّق فيه أبواب الجحيم، وتغَلُّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم))(أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه).
فهل ترون أن أبواب الجنة تفتح للفاسقين، الذين يُفسدون في الأرض، ويمحون آثار الصيام بالليالي الشيطانية، وهل ترون أن شياطين الجن تُصَفَّد وتُربط عن شياطين الإنس، الذين أراحوا شياطين الجن، وفاقوهم في فتنة المسلمين..! روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) فهل اجتنبت الكبائر؟ بل تراكمت وزُينت وجُمّلت، ودُعي المسلمون إليها فى أرضهم وديارهم وبأيديهم وألسنتهم! وفي شهر الصيام المبارك ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه))(أخرجه البخاري وأحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه)، ألم يقل صلى الله عليه وسلم : ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر))( رواه ابن ماجة وابن خزيمة والحاكم).
فهل من متعظ؟ وهل من منكر غاضب لله، ولحُرمة هذا الشهر المعظم؟ قال تعالى : {ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون.}.
اللهم إنا نبرأ إليك من كل مسؤول متخاذِل أو مخذّل، ومن كل عالم بهذه المنكرات، يستطيع تغييرها ولا يغير، اللهم لا تعجل علينا، وأمهلنا لكمال التوبة وحسن الخاتمة.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.