د. مصطفى هاشمي
استبشر المواطنون خيرا -في وقت سابق- بإقرار التعديل الضريبي الذي أعلنته الجهات المعنية بخصوص بعض التمويلات البديلة، حيث تم تخفيض الضريبة على القيمة المضافة من 20 إلى 10 في المائة، وكنا نعتقد أن هذا القرار سيكون له انعكاس إيجابي على الاقتصاد الوطني وعلى المواطن إضافة إلى إنعاش الاقتصاد بصفة عامة، كما كان الجميع يرتقب أن يعرف سوق العقار والمنقول رواجا كبيرا، بأن يُقدِم الكثير من المواطنين على اقتناء عقارات ومنقولات لرغبتهم في التعاطي بإيجابية مع التمويل بالمرابحة وغيرها.
إلا أن المهتمين بموضوع الصيرفة الإسلامية طال انتظارهم وأصابتهم خيبة أمل، بسبب التأخر الكبير والتعثرات المتتالية التي رافقت تنزيل هذا المشروع على أرض الواقع، إلى أن أعلن الوزير المنتدب لدى وزير الاقتصاد والمالية المكلف بالميزانية إدريس الأزمي الإدريسي خلال شهر يناير 2013 عن مشروع قانون جديد يتعلق بإحداث البنوك التشاركية، ثم دار الحديث مؤخرا حول الترخيص لبنوك إسلامية خليجية لفتح فروع لها بالمغرب، واستمرت بذلك الإجراءات والتدابير وفاتت معها فرص كبيرة من الاستثمارات المهمة عن المغرب. ولئن أمكن اعتبار فتح شبابيك للتمويلات البديلة ببعض البنوك التقليدية -وإن بشكل محتشم وضعيف الأثر-، وتخفيض نسبة الضرائب المفروضة على بعضها، والترخيص من قبل بنك المغرب بتاريخ 13 ماي 2010 لـ”التجاري وفا بنك” بإنشاء أول مؤسسة في المغرب متخصصة في التمويلات البديلة ؛ “دار الصفاء”، خطوات مهمة في الطريق الصحيح، إلا أنه ينبغي أن تتلوها خطوات أخرى أكثر أهمية ؛ وهي المتعلقة بتأسيس بنوك إسلامية مغربية مستقلة قائمة بذاتها، وفق الشروط والمعايير المعروفة عالميا، والتخلي تدريجيا عن المعاملات الربوية التي كانت السبب الأول في اندلاع الأزمة المالية العالمية.
أسباب ودواعي إحداث البنوك الإسلاميةهناك أسباب كثيرة ؛ شرعية واقتصادية واجتماعية تدعو إلى إحداثها، وإليك أيها القارئ الكريم بعض هذه الأسباب:
أولا : الضـرورة الـشـرعـيـة :
1- من تمام الإسلام وكماله استمداد المنهج الاقتصادي للأمة من مبادئ الإسلام وتعاليمه :
يفترض في الأمة المسلمة -بحكم إسلامها- أن تكون مُسْلمة زِمَام أمرها كله لبارئها وخالقها عز وجل، ممتثلة أمره ونهيه، حريصة على استمداد مختلف مناهج حياتها من كتاب الله وسنة رسولهصلى الله عليه وسلم؛ ومن ذلك منهج الإسلام في التصرفات المالية، وأن تبتعد أشد ما يكون البعد عن النظم والمناهج المخالفة لشريعة الإسلام، فإن هي فعلت ذلك تكون قد تمثلت الدين في هذا الجانب قولا وعملا، إيمانا وتسليما، مجسدة قول الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام: {ربنا واجعلنا مسلمَيْن لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}(البقرة : 127)، مقتدية بتسليمه الفوري والمطلق لله عز وجل حين أمره بالإسلام له سبحانه: {إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين}(البقرة : 130).
فمن مقتضيات الإيمان الكامل أن يصدر المؤمنون جميعا؛ أفرادا وجماعات ومؤسسات في كل تصرفاتهم ومعاملاتهم وبيوعهم وشرائهم وكل شؤون حياتهم مما قرره الشرع الحكيم وارتضاه لهم، {قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}(الأنعام : 164- 165).
2- ولقد حذر القرآن الكريم بني إسرائيل من النزعة التبعيضية للدين ومن الإيمان التجزيئي؛ وتوعدهم بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة: {أفتومنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما يعملون}(البقرة : 84)، {كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عِضِين}(الحِجْر : 91)، ولعل في هذا إشارة للمسلمين أيضا لئلا يسلكوا مسلك بني إسرائيل فيجعلوا القرآن عِضِين(1)، ينتقون منه بعض ما يشاؤون من الأحكام والشرائع فيعملون ببعض العبادات والمعاملات ويتركون العمل بغيرها مما ورد فيه لأنها لا توافق أهواءهم ومصالحهم الموهومة.
3- حرمة الربا معلومة من الدين بالضرورة {وأحل الله البيع وحرم الربا} :
وهذا السبب من مستلزمات التسليم المطلق لما يرضي الله تعالى؛ فأول ما يجب على المسلم الحق امتثاله هو الانتهاء أولا عما نهى الله عنه من المحرمات، وخصوصا المهلكات من كبائر الذنوب والمعاصي ومنها التعامل بالربا، ذلك أن النهي عند علماء الشريعة أقوى من الأمر، وهذا ما يبينه النبيصلى الله عليه وسلم بقوله: “ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم”(2).
ولا يخفى أن الربا من الكبائر التي نهى الشارع الحكيم عنها، وشدد كثيرا في هذا النهي، وحسبي الاستدلال على هذا النهي والتشديد فيه بالأمور التالية:
أ- التعامل بالربا هو الكبيرة الوحيدة في القرآن التي أعلن الله تعالى الحرب على مرتكبها ؛ {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مومنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله}(البقرة : 277 – 278)، وفي هذا دليل واضح على خطورة الربا وأضراره الكبيرة على الأفراد والمجتمعات والدول، وما الأزمة المالية العالمية التي تمخضت عن إغلاق بنوك عالمية كبيرة(3)، وإعلان العديد من المؤسسات المالية والقطاعات الإنتاجية إفلاسها، وتورط العديد من الأفراد في وحل المديونية، وخسارات الشركات وسيطرة الكساد وتسريح العمال، كل ذلك مظاهر ونتائج طبيعية للحرب التي توعد الله تعالى بها المرابين, وقد حاولت الكثير من الدول الكبرى ذات الاقتصادات (القوية) إنقاذ نظمها الاقتصادية وإصلاح أنظمتها المالية بضخ ملايير الدولارات لحساب المؤسسات المالية، وبرغم كل الجهود المبذولة يبدوأن الاقتصاد العالمي لم يعرف بعد طريقه إلى التعافي والاستقرار، بل تلوح في الأفق أزمات أخرى مست اقتصادات دول أوربية كاليونان والبرتغال وألمانيا وغيرها من الدول وما نهجته من سياسات التقشف.
ب- حديث نبوي شريف أثره في النفس بليغ، صريح في التشديد والإنكار على المرابين، يبين فيه النبيصلى الله عليه وسلم أن أكل درهم من الربا أفظع وأشد وأنكر من أن يأتي المرء كبيرة الزنا ستا وثلاثين مرة، فتأمل معي الحديث”درهم يأكله الرجل من الربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية في الإسلام”(4).
ومما ورد موقوفا على كعب الأحبار أنه قال “درهم ربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية أدناها أن يزني أحدكم بأمه”(5)؛ فإذا كان زنا الرجل بأمه أمرا يخالف الفطرة السليمة، ويمجه العقل والعادة، وربما لم تُسغه حتى أخلاق الكفار والمجوس ومن شابههم ممن لا دين لهم ولا أخلاق، فكيف للعقل أن يتخيل خمسا وثلاثين صورة أخرى من صور الزنا أفظع من الزنا بالأم! فيا له من تشنيع كبير يصور قبح الفعل وفداحة جريمة الربا!!!
إن الحديث والأثر المذكورين لا يدعان للمسلم مجالا قط للتفكير بالربا، بله أن يتعامل به أخذا أو عطاء، أو قرضا أو استثمارا، بل إنه لا يجد بدا -بعد سماعه- من الامتثال لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مومنين}(البقرة : 277).
ج- إن أحكام الشريعة كلها قائمة على جلب المصالح ودفع المضار، فما شرعه الله عز وجل للعباد إما أن يكون لمصلحة محققة يروم جلبها للمكلفين، أو لأجل مفسدة معينة يقصد درءها عنهم، عَلِم ذلك من علمه وجهله من جهله، ولا يخفى أن أصل التحريم والتحليل في هذا الدين العظيم قائم على تحريم كل الخبائث الضارة وتحليل كل الطيبات النافعة؛ {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث}(الأعراف : 157)، وقد يتوهم البعض أن في الربا مصلحة أو منفعة ما، وهذا مجرد تلبيس من شياطين الجن والإنس، إنما هي مصالح موهومة غير حقيقية، بل إن أضرار الربا كثيرة ظاهرة للعيان، وواقع المتعاملين به وأحوالهم شاهد حي على ذلك.
4- رحـابة التشـريع الإسـلامي ومرونته : بإلقاء نظرة على أبواب البيوع والمعاملات في الفقه الإسلامي يتبين مدى رحابة التشريع الإسلامي ومرونته، ويتمثل مفهوم الرحابة في اشتماله على أنواع كثيرة من البيوع التي لم تعرفها البنوك التقليدية ولم تتعامل بها بصيغها المشروعة ؛ من ذلك المزارعة، المشاركة، المضاربة،المساقاة، المرابحة،الاستصناع، الإجارة والإيجار المنتهي بالتمليك…، فكل هذه الأنواع من البيوع تمثل مجالا خصبا جدا للتعامل المالي الحلال، وبدائل حقيقية وعملية عن المعاملات المحرمة.
وأما مفهوم مرونة الفقه فيتجسد في إمكانه تأطير أي معاملات مالية مستحدثة، وفق ضوابط الحلال والحرام وبمراعاة قواعد الاجتهاد ومقاصد الشريعة، حتى تنضبط هذه المعاملات بميزان الشرع فلا تحل حراما أو تحرم حلالا.
ثـانـيـا : الـمـسـوغـات الـواقـعـيـة :
1- حاجة المجتمع المسلم إلى التعامل المصرفي الخالي من الربا المحرم:
إن المجتمعات الإسلامية التي تتحرى بفطرتها الدينية سبيل الاستقامة على شرع الله في معاملاتها، وتسعى للحلال الطيب الذي يُرضي الله تعالى، ليعبِّر لسان مقالها ولسان حالها معا عن حاجتها الماسة إلى المعاملات المصرفية الخالية من المحرمات والشبهات، وعن رغبتها الملحة في إحداث قنوات للمعاملات المالية البعيدة عن استخدام أسعار ما يسمى ب (الفائدة)، والحاجة تنزل منزلة الضرورة كما يقول الفقهاء.
2- البنك الإسلامي يسهم في إنعاش الاقتصاد برواج الأموال بكثرة :
من بين مؤشرات النمو الاقتصادي ارتفاع أرقام المعاملات المالية، ورواج الأموال وتداولها بين الناس على نطاق واسع، هذا الرواج الذي يعد مقصدا هاما من مقاصد الشريعة في التصرفات المالية، لئلا يكون المال متداولا بين الأغنياء فقط ؛ {كي لا يكون دُولة بين الاغنياء منكم}(الحشر : 7) و”دُولة” بضم الدال أي يتداولونه بينهم فحسب دون غيرهم من الناس.
ولعل من بين الأسباب المؤدية للركود الاقتصادي ؛ عدم رواج الأموال بأيدي فئات عريضة من المجتمع؛ ذلك أن البنوك الربوية تعمل خلاف هذا المقصد الجليل -رواج الأموال- لأن سياستها المالية قائمة أصلا على الاحتكار بدل الرواج، وعلى تركيز المال بيد فئة قليلة من الناس وزيادة إغناء المؤسسات الربوية على حساب المتعاملين مع البنك الذين يزدادون فقرا وحاجة مع مرور الوقت.
أضف إلى ذلك أن بعض الإحصائيات أكدت محدودية عدد المتعاملين مع الأبناك الربوية حيث تبلغ نسبة غير المتعاملين ممن يتوفرون على حساب بنكي ما يقارب 20 في المائة، كما تأكد في أحد التقارير المنجزة بالمغرب أن أزيد من 30 في المائة من المواطنين صرحوا بعدم تعاملهم مع الأبناك بالقروض بسبب معاملاتها الربوية المحرمة ؛ فهذه النسبة التي تمثل ما يقارب ثلث المتعاملين المفترضين تبقى خارج نطاق الفعل الاقتصادي، مما يؤثر سلبا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية بسبب عدم استثمار مبالغ مهمة جدا من الأموال.
3- المستقبل في المعاملات المالية للمصارف الإسلامية :
لقد بدأت المصارف الإسلامية في أول أمرها بداية متواضعة – شأن كل بداية في كل مجال، إذ حاول المنظرون لها استلهام نصوص الوحي وروح الشريعة ومقاصدها وأحكام البيوع والمعاملات في الفقه الإسلامي، لأجل بناء نظام اقتصادي متكامل، وما لبثت أن انطلقت تجربة هذه المصارف في عدد من الدول منذ سنوات عدة، واستمرت في النمو فأثبتت جدارتها وقدرتها على الاستجابة لمتطلبات العصر في مجال المال والاستثمار، بل لقد أثبتت قدرتها على الصمود في وجه الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالبنوك الربوية، فأوقعتها – كما سبقت الإشارة- في الكساد والخسارة والإغلاق فتساقطت الواحدة تلو الأخرى كما تتساقط أوراق الخريف.
4- للمعـاملات الربوية أضرار اجتماعية :
إن الأضرار المادية والاجتماعية التي تخلفها الأبناك الربوية على المقترضين لا يمكن أن تصفها الكلمات، بل لا يقدر آثارها البالغة ومضاعفاتها الوخيمة إلا من اكتوى بنار الاقتراض الربوي الذي يضع المقترض بين المطرقة والسندان؛ مطرقة الديون المتراكمة والأقساط الشهرية التي تقتطع من لقمة عيشه، وسندان تكلفة المصاريف اليومية المتزايدة، ناهيك عن إحساسه بتأنيب الضمير والقلق النفسي، لارتكابه إحدى الموبقات والكبائر المهلكة التي سيحاسب عليها يوم القيامة.
5- المغرب بات إلى عهد قريب يشكل استثناء بخصوص الترخيص لبنك إسلامي :
لا يخفى على أحد أن المصارف والأبناك الإسلامية تمثل اليوم قوة مالية واقتصادية كبيرة في العالم، وتعرف نموا مطردا منذ سنوات، وليس ذلك في بلاد الخليج والمشرق فحسب، بل إن بعض الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية تتنافس في فتح المجال للمعاملات المالية الإسلامية؛ فقد أعلنت فرنسا على سبيل المثال نيتها في إنشاء أكبر مركز مالي للبنوك الإسلامية لتنافس بريطانيا التي سبقتها في هذا المجال، وذلك بعد إدراكهم جدوى وأهمية النظام الاقتصادي الإسلامي ودوره في التنمية، وفي إمكان إخراجهم من أزماتهم المالية المتلاحقة التي أحدثتها مؤسساتهم الربوية المدمرة لأنظمتهم المالية ولنسيج مجتمعاتهم على السواء.
ويأمل كل متتبع لشأن المعاملات البديلة أن يكون الترخيص بإحداث شركة محلية متخصصة في البيوع البديلة، بداية ل-تأسيس أبناك مشابهة في المجال نفسه، تقوية لشبكة المصارف الإسلامية وتعزيزا لروح التنافسية المفضية إلى رعاية مصلحة المتعاملين برفع جودة الخدمات وخفض التكلفة.
——-
1 – عِضِين: أعضاء وأجزاء، اُنظر مختار الصحاح (ع ض ه-)
2 – جزء من حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول اللهصلى الله عليه وسلم، (6777) ومسلم في كتاب: الفضائل، باب: توقيرهصلى الله عليه وسلم، .(1337)
3 – بلغ عدد البنوك المفلسة بالولايات المتحدة الأمريكية خلال سنة 2009 “140 ” بنكا، وتوقعت الوكالة الفدرالية الأمريكية لضمان الودائع البنكية ارتفاع العدد في سنة 2010، مشيرة إلى أن انهيار البنوك سيكلفها 100 مليار دولار أمريكي في الفترة الممتدة بين العامين 2009 و 2013.
4 – رواه أحمد، عن عبد الله بن حنظلة رضي الله عنه، غسيل الملائكة، وقد رواه أحمد، بإسناد صحيح كما ذكر الألباني في مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي برقم (2825)، ورواه أيضاً الدار قطني، بلفظ: “درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية”
5 – لا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والصواب فيه أنه من قول كعب الأحبار على الأصح – كما رجحه الإمام أحمد وأبو حاتم والدارقطني وابن الجوزي وغيرهم.