خروق في سفينة المجتمع(29)
د. عبد المجيد بنمسعود
منظومة التعليم في حياة المجتمع، أي مجتمع، هي بمثابة الرحم الذي تتخلق فيه شاكلته الثقافية والاجتماعية، وكيانه الحضاري العام، وبقدر ما تكون شروط الحمل والتخصيب فيه متصفة بالسلامة والنقاء، تأتي المواليد على ذلك القدر من السلامة والنقاء، والقوة والعنفوان، وعلى العكس من ذلك، فإن تعرض ذلك الرحم لاضطرابات وتشوهات، يترتب عنه -لا محالة- أن تتسرب تلك التشوهات إلى المواليد، فتخرج إلى العالم حاملة لعناصر الضعف والتعويق، ولن تستطيع أي مساحيق أو أصباغ -مهما تذرع واضعوها بأساليب التخفي والاحتيال- أن تحجب تلك العناصر حتى عن العين البسيطة، لأن الإعاقة أو العوار اللذين تشكو منهما المنظومة التعليمية يظهران بكل سفور وجلاء، من خلال أنماط التصرف والسلوك التي تطبع وجود خريجيها، في كل شأن من الشؤون.
وإن الروح التي تسري في المواليد، عبر جميع مراحل التشكل والتخلق، لهي ما تمثله خريطة المعارف والقيم المبثوثة في ثنايا المناهج التعليمية، التي تشكل قوام المنظومة بموادها ذات الطبيعة العلمية أو الأدبية أو الفنية أو الرياضية، بل وما يتعلق منها بالأطر التربوية والتعليمية المدبرة لعملية التعليم والتربية، والتكوين والتزكية وهي رأس الأمر، وبالمناخ أو الفضاء الذي يكتنف كل ذلك على المستوى الخاص والعام، أي العلاقات المتبادلة داخل مؤسسات التربية والتكوين ومحيطها القريب، وتلك التي تجري في دوائر المجتمع المختلفة الوظائف والأدوار، المتباينة من حيث النفوذ أو الاتساع.
وما من شك في أن الذي يمثل قوام الروح، أو ما سميته بخريطة المعارف والقيم، إن هو إلا الوجدان الديني الذي صاحب أجيال الأمة أو المجتمع عبر العصور، وما ارتبط به من منهج تشريعي سلوكي، يهتدي به الأفراد والجماعات، في خضم الحياة التي تصفو مشاربها، وتعذب مواردها، بقدر ما يكون عليه أهل سفينة المجتمع من نضج في الفكر، وسلامة في الضمير، واستقامة في العمل والسلوك.
وإن الذي يقوم بتشريح موضوعي نزيه لمنظومتنا التربوية، لا يملك إلا أن يحوقل ويسترجع، ويصعد زفرات الحسرة والأسى، لما يتكشف له من ثغرات، بل من حفر وأخاديد مهولة، تمتلئ ألغاما ناسفة، وقنابل مبرمجة، تؤول لا محالة إلى نسف السفينة في أي ساعة من ليل أو نهار، ولا يتردد لحظة، بعد الانتهاء من التشريح، في إصدار حكم جازم مفاده، أن منظومتنا التعليمية منظومة فاقدة للروح، ومن ثم فهي لا تستحق تسميتها بالمنظومة إلا تجوزا، على اعتبار أن ذلك اللفظ يوحي بمعاني النظام والاتساق، التي لا بد أن تلقي بظلالها على كل جزئية أو مفصل من جزئيات ومفاصل المشهد التعليمي، غير أن منظومتنا لا ينطبق عليها شرط النظام والإتساق لذلك فكل أجزاء المنظومة مختل ومنفك، ولا تجد أي جزء إلا وهو يعبر عن مظهر من مظاهر الخلل والاعوجاج في ذلك المشهد، أو في فعل التربية والتعليم، باعتباره اختيارا من أرباب سفينة المجتمع، بغض النظر عما إذا كان ذلك الاختيار ممثلا لإرادة الجماهير ممثلا لروحها وتطلعاتها، أم مناوئا لتلك الإرادة ومنافيا لذلك الروح.
وإن واقع التيه، والإخفاق المرير الذي ظل شبحه يلاحق سفينة المجتمع المغربي على مستوى فعل التربية والتعليم، ليدل على وجه القطع واليقين، أنه يمثل خرقا ظل يتسع على مدى ما يزيد على نصف قرن من الزمان، تجلى في خيبات متتالية في ما سمي “إصلاحات”، إصلاحات اكتست طابع الحتم، لأنها كانت في كل مرة تسلك الطريق الخاطئ، فتمعن في البعد عن الهدف المنشود، الذي هو الوقوف على الأرض الصحيحة للنهوض والانطلاق.
إن القوى الحية على متن سفينة المجتمع المغربي، تؤمن إيمانا راسخا بأن الخروج من واقع التيه والانفلات من شبح الإخفاق رهينان بعودة الروح إلى منظومة التربية والتعليم، وإن ما تشهده الساحة التعليمية من حراك تقوده تلك القوى، لأجل الإنقاذ، من خلال مساعي شريفة ودعوات مخلصة لحصول تلك العودة المباركة، ليمثل بشائر خير وشعاع أمل، وخطوات على الدرب، لن تعدم ثمارها بإذن الله العلي القدير.
ويندرج في سياق تلك الجهود الصادقة، “الملتقى الوطني الثاني للتعليم الأصيل” الذي نظمته الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين جهة سوس ماسة درعة، بتعاون مع “جمعيات العلماء بالمغرب”، واللجنة الجهوية لمتابعة ملف التعليم الأصيل، ومساهمة “المركب التربوي القلم”، تحت شعار: “التعليم الأصيل بالمغرب، الواقع المشهود والأمل المنشود”، وذلك بأكادير يومي 22 و23 مارس 2013، اللذين انتظما جلسة افتتاحة، وجلسة ثانية ألقي خلالها عرض لرئيس قسم التعليم الأصيل الأستاذ عبد الرزاق العمراني، بعنوان”واقع التعليم الأصيل وآفاق الارتقاء به”، وعرض بعنوان: “التعليم الأصيل بين المحقق والمعلق” للدكتور الشاهد البوشيخي، المنسق العام للجنة الوطنية الممثلة لجمعية العلماء. وجلسة ثالثة عرضت خلالها نماذج لتجارب ناجحة في التعليم الأصيل، وجلسة رابعة اشتغلت على الورشات التالية: ورشة المناهج والبرامج وآفاق تلاميذ التعليم الابتدائي والإعدادي الأصيل، وورشة الكتاب المدرسي وطرق الدعم والتقويم،، وورشة التكوين المستمر ودعم قدرات الموارد البشرية العاملة بالتعليم الأصيل، وورشة التعبئة والتواصل والشراكة حول التعليم الأصيل، ثم جلسة ختامية تليت خلالها التوصيات والالتزامات التي خلص إليها الملتقى الذي عرف نجاحا من حيث التنظيم وتضافر الجهود، في أفق إعادة الروح لتعليم فقد روحه منذ أمد بعيد.