أسند الله تعالى فعل الهداية لذاته السنية إسنادا واضحا، وفصلها عن مهمات رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم الدعوية فصلا بينا، فقال جل من قائل : {إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء}، في حين أسند فعل الـهـُدى لكتابه المنزل، فجعله هداية للعالمين أجمعين، كما في قوله جل جلاله : {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}، وجعل فيه كل الهدى للمؤمنين المتقين، كما في قوله عز وجل : {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}. كما ربط تعالى بين هدايته الربانية وبين هداية كتابه العزيز بأن جعله وسيلة لذلك، فقال : {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام}، أي يهدي بكتابه الذي أنزله.
والهداية: هي الطريق المستقيمة المؤدية إلى الغاية من أقرب وجه وبأقل التكاليف، وأقوم: أكثر استقامة وثباتا واعتدالا وصوابا.
إن إسناد فعل الهداية للقرآن الكريم بعد إسناده لله عز وجل، ونفيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن عدة أمور منها:
-أن الله تعالى هو الهادي إلى الصراط المستقيم على مَرّ الأزمان والعصور واختلاف الأمكنة والدهور، وأن الدعوة ينبغي أن تكون إليه وحده، وليس إلى طريقة أو مذهب.
-أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وبيّن للناس ما في القرآن الكريم : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}، وأنه عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى، في الدعوة إلى الله، فالدعاة دائما دعاة، وليسوا هداة ولا قضاة.
-أنه عليه الصلاة والسلام -وإن كان مؤيدا بالوحي حَـمَّله ربه مهمة الدعوة فقط، ولم يحمله مسؤولية هداية الآخرين، حتى لا يتعلل أحد بعده بالانصراف عن الدعوة إلى الله بسبب عدم استجابة الآخرين، أو يتأسى بالرسول صلى الله عليه وسلم أسوة غير سوية، فيقول: هو صلى الله عليه وسلم نبي، وأنا لست كذلك.
-أن القرآن الكريم -ومعه السنة النبوية المطهرة التي هي وحي أيضا {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}- هُدى لجميع الناس، وبشرى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، هو هدى على مَـرِّ الأزمنة واختلاف الأمكنة، لأنه الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمحفوظ بعناية الله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
-أن القرآن الكريم يهدي للتي هي أقوم وأعدل وأقسط في كل الأمور، بالنسبة للفرد جسدا وروحا، وللجماعة بناء وفكرا وسياسة واقتصادا، ولبني البشر عموما عمرانا وحضارة، وتقدما وأمنا، بل وللعالمين أجمعين انسجاما وتآلفا وسلاما. يهدي للتي هي أقوم من حيث هو المرجعية للدعاة والبناة، للرعايا والرعاة، فرادى وجماعات.
-بفضل هداية القرآن للتي هي أقوم، تكون هذه الأمة أمة وسطا، كما أراد لها رب العزة، ليكون أبناؤها شهداء على الناس، وقدوة لهم، بعلمهم، بحضارتهم، بتقدمهم، بعمرانهم، ببيئتهم، بنظافتهم، بخلقهم، بسلوكهم… بكل شيء فيهم.
لكن أين نحن من هذا الـهُدى؟ وأين نحن من أمة الوسط؟ وأين نحن من أن نكون شهداء على الناس؟ أو نكون قدوة لهم؟
أسئلة تتوالد لابد أن نطرحها على أنفسنا، ولابد أن نجيب عنها الجواب الصحيح لنعرف الفرق بيننا وبين الواقع المنشود الذي أراده لنا هُدى القرآن الكريم.