أ.د. جميلة زيان(*)
من خلال إجراء بعض الحفريات في ذاكرة التاريخ المغربي، يتبين أن المرأة المغربية لها اتصال السند بأمهات المؤمنين وبالصحابيات وبالرموز الإسلامية منذ الفتح إلى الآن.
وهكذا لم يخل التاريخ المغربي منذ قيام دولة الأدارسة من رموز نسائية كتبن جزءا من هذا التاريخ، فنجد مثلا :
كنزة الأوْرَبِيّة زوجة المولى إدريس الأول التي قامت بدور هام في إرساء قواعد الدولة الإدريسية، وأعدت ولدها إدريس الثاني لتحمل عبء الدولة الإسلامية بالمغرب.
وفاطمة الفهرية -وكانت من عامة الناس- الزاهدة العابدة، مؤسسة جامع القرويين في ق3هـ، أعرق جامعة في العالم الإسلامي آنذاك.
وكانت السيدة زينب النفزاوية زوج يوسف بن تاشفين -في العهد المرابطي- صاحبة سلطة نافذة.
وسارة بنت أحمد بن عثمان كانت شاعرة وطبيبة ماهرة في العهد المريني.
وكانت مسعودة الوزكيتية أم المنصور السعدي تهتم ببناء القناطر، وإصلاح السبل والمساجد.
وكانت خناتة بنت بكار زوجة السلطان المولى إسماعيل تصدر الظهائر والمراسيم في بعض الشؤون القبائلية في عهد زوجها المولى إسماعيل.
وكانت السيدة الحرة، حاكمة مدينة تطوان، المجاهدة التي قاومت الاستعمار البرتغالي… (1).
هذه العلامات البارزة شكلت في مجملها نخبة المجتمع المغربي قبل مجيء الاستعمار الفرنسي -على عهد الدولة العلوية- وهي تشهد أن مسؤولية التنمية كانت ملقاة على عاتق الرجل والمرأة معا في المجتمع المغربي الإسلامي، وأن المرأة المغربية كانت مشاركة، غير مشاهدة، وكانت حاضرة بثقلها الإيماني والفكري والنضالي.
ولو عرجنا على واقع المرأة المغربية في الحياة العامة، لوجدنا أن الرجل هو الذي كان يقوم بمعظم الأعمال خارج البيت، وكان يجد السبيل إلى توظيف نفسه، ولا يعاني من البطالة، وكانت المرأة تتطوع بالعمل داخل البيت، وتنهمك في مطالبه، وكان لها دور ريادي في تكوين الأسرة، والحفاظ عليها وتنميتها بالإنجاب وتربية الأطفال، والسهر على تنشئتهم التنشئة الصالحة. وفي بعض الأسر كانت المرأة تسهم -بشكل تطوعي- في اقتصاد أسرتها بعمل مهني تزاوله داخل البيت، وكانت المرأة القروية ولا تزال إلى الآن تشارك الرجل في احتمال مسؤولية الرعاية الأسرية بالإنفاق، عن طريق الاشتغال في الحقول، ورعي الماشية، وسقي الماء، وغير ذلك…
وبقيت هذه المهام تطغى على أدوارها الأخرى، بسبب طبيعة الرجل المحافظة، وتقاليد المجتمع، وحرمت معظم النساء -بسبب ذلك- من التعليم والعمل، باستثناء بعض الحواضر المغربية التي كانت مركزا للإشعاع العلمي والفكري؛ كفاس مثلا، حيث سجل تاريخها القريب أن الفتيات الفاسيات كن يتجهن إلى دار معلمتي أو دار عوينتي في المدينة العتيقة؛ ليتعلمن أصول الثقافة الإسلامية والاجتماعية على السواء، التي تؤهلهن لأن يكن زوجات صالحات.
غير أن المرأة المغربية -بصفة عامة- ظلت ترنو إلى مشاركة أكبر للرجل في بناء المجتمع، فظهرت على مسرح الأحداث نساء مجاهدات في معركة الاستقلال، في البادية والحاضرة، بالسلاح والقلم؛ إذ نجد مثلا: العالمة زهور الأزرق -رحمها الله- تهيئ ورقة عمل للمطالبة بحقوق المرأة في المؤتمر الاستثنائي لحزب الاستقلال، وكانت تشرف على صفحة المرأة بجريدة العلم… وبعد حصول المغرب على استقلاله، دخلت الفتاة المغربية تحت إشراف الدولة معركة الحصول على العلم ومعركة البناء؛ إذ تم مثلا إلحاق معهد الفتيات بجامع القرويين، حيث تخرجت أول دفعة للعالمات، ولما نما غرس هذا التعليم، عبر مجموعة من التشريعات والتدابير، المستوحاة من شريعة الإسلام، أصبحت المرأة المغربية تسهم في بناء وطنها من خلال التدريس بجميع مستوياته، والكتابة ببعض مؤسسات الدولة (وزارة الأوقاف، وزارة التربية الوطنية، الإدارات العمومية…)، والعناية بالمرضى في ميدان الصحة، واحتمال مسؤوليات التعبير عن الرأي والإسهام في التنظيمات السياسية والنقابية والجمعيات النسائية…
ونظرا للتغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها البلاد أصبحت المرأة في السنوات الأخيرة تشارك في جميع المجالات الحياتية؛ ففي المجال الاقتصادي، عينت مديرة شركة ومقاولة ومصنع ورئيسة تعاونية صغرى أو متوسطة… وفي المجال الاجتماعي والتربوي أصبحت طبيبة وطبيبة متخصصة، وجراحة وصيدلية، ومديرة روض ومدرسة أو ثانوية، أو عميدة جامعة…وفي المجال العلمي والدعوي، انتصبت المرأة المغربية للتأطير العلمي في مختلف الجامعات المغربية، وبمختلف شعبها وتخصصاتها، وهي الآن تأهلت لقيادة أدق الأمور، وهو العناية بالشأن الديني، حيث عينت في المجالس العلمية الحكومية إلى جانب السادة العلماء، إنصافا لها ومساواة لها مع شقيقها الرجل. وبموجب هذا التنصيب، أصبحت تشرف على محو الأمية الدينية في وسط النساء خاصة، وتؤطر المرشدات علميا ومنهجيا، وتشارك في العمل الاجتماعي والخيري، وفي إلقاء الدروس والمحاضرات والندوات العلمية والدينية، في المدينة و البادية، بل هناك من النساء اللواتي شاركن في المحافل العلمية الدينية المنيفة بتقديم درس ديني بحضرة ملك البلاد، وهي سابقة في الوطن العربي الإسلامي، كما نشير إلى أن للمغرب السابقة كذلك في إرسال بعثات نسائية للقيام بدروس التوعية الدينية والثقافية لفائدة الجالية المسلمة بأوروبا عن طريق الوزارة المكلفة بالجالية.
وفي المجال السياسي، تشارك المرأة الآن في تسيير الشأن العام لثلاثين مليون أو يزيد من المغاربة بالبرلمان أو الحكومة أو حتى مستشارة للملك، وتشارك في قيادة الطائرات… هذا ناهيك عن الشاعرات والأديبات والقصاصات والناقدات والمسرحيات وبطلات الرياضة…
وإلى جانب هؤلاء النساء القياديات، هناك نساء من الطبقة الوسطى أو المعدمة، يشكلن النسبة العظمى من النساء المغربيات؛ هن نساء فقيرات أو أميات، هاجر أغلبهن من القرية إلى المدينة لطلب الرزق، فعملن أجيرات في البيوت، وفي المدارس الخصوصية، وفي الإدارات العمومية، والمؤسسات التعليمية؛ وعملن في الفنادق والمصانع بأجور زهيدة، ومنهن مجازات عاطلات عن العمل، اشتغلن في العيادات الخاصة أو في الصيدليات، أو في المتاجر الممتازة، أو قواعد البيوت على آلة الخياطة والطرز أو الأشغال اليدوية لمساعدة الأسرة، وهناك سائقات التاكسي والأوتوبيس والميترو، وعاملات في ميكانيك السيارات، أو نادلات في المقاهي، أو بائعات للهوى…
علاوة على ذلك نجد فتيات قاصرات في الجمعيات الخيرية ومراكز التأهيل نتيجة الفقر والإهمال العائلي والانحراف الأخلاقي، كما نجد أيضا أن أغلب الأسر اليوم تعولها نساء، مطلقات أو أرامل أو غير متزوجات، لاسيما في المدن الصناعية الكبرى أو في البوادي، حيث نسبة الفقر والأمية متفشية. وحين نتأمل وضع هذه الشريحة من النساء اللواتي يعانين الفقر والتهميش، وفي الغالب الأمية، نستيقن أن المرأة المغربية لا تزال تتطلع إلى مزيد من المكتسبات ومزيد من الإنصاف في ظل مجتمع رجولي، ونظام أسري أبوي، لا يزال يفرض أعرافه وخصوصياته وقيوده على المرأة؛ سواء متعلمة أم أمية، ومن ثم لا تزال خطوات المرأة المغربية تتعثر في السير إلى المكانة التي بوأها لها الإسلام ومقاصد الشريعة السمحة، وأكدتها الأعراف والمواثيق الدولية والمرجعيات الحقوقية… ويمكن القول: “إن معظم المشاكل التي عانت منها النساء، قبل الاستقلال وبعده، هي مشاكل ذات طابع أسري، والأسرة شيء مقدس عندنا، وسببها عدم اطمئنان النساء في مسائل الطلاق والتطليق، وغيبة الزوج، والنفقة بعد الطلاق، ومشكل الحضانة، وتعدد الزوجات،..”(2). وقد عكفت لجان تعاقبت منذ الاستقلال إلى الآن، على تشكيل وتعديل مدونة الأسرة، بناء على اقتراحات من مختلف الهيئات النسائية والعلمية والدينية والحقوقية. فماذا عن وضع المرأة المغربية وسط هذه التعديلات؟ هذا ما سنتناوله في موضوع العدد القادم إن شاء الله.
——
(*) شعبة الدراسات الإسلامية، كلية الآداب سايس- فاس.
1- يراجع في ذلك: فعالية مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية والثقافية: ذة نجاة المريني/ص7، وأيضا دور المرأة المسلمة في العمل الاجتماعي: ذة العزة لكليلي/ص9.
2- وهو المستفاد من خطاب المرحوم الملك الحسن الثاني سنة 1993 عند استقباله ممثلات عن الحركات النسائية والجمعيات النسائية بالمغرب: يراجع في بحث ذ إدريس خليفة: المرأة المغربية وبناء المغرب الجديد/ص17.