تـمــهـيـد :
للقرآن الكريم مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة عند المسلمين، فهو كلام الله ووحيه المنزل على رسوله محمدصلى الله عليه وسلم، وهو الرسالة السماوية الخاتمة لخير أمة أخرجت للناس، وهو أيضا مصدر الدين والتشريع والتقنين: قال تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}(الشورى : 11 )، وقال سبحانه: {ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه}( آل عمران : 85 )؛ فالقرآن هو أصل الأصول وأساسها، منه تنطلق وإليه تعود، وهو أصل حياة الأمة وسبيل رشدها وعزتها، وتحقيق شهادتها على الناس، ولهذا فقد وصفه الله تعالى بأوصاف عدة تبين طبيعته ووظيفته، وتثبت أهميته ومكانته العظيمة، منها:
أ- أنه روح: قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من امرنا}( الشورى:52 )، والروح هي سر الحياة، ولا حياة للمسلمين في أي زمان ومكان بدون هذه الروح.
ب- وأنه شفاء ورحمة للمؤمنين به العاملين بهداه؛ قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمومنين} ( الإسراء:82 ).
ج- وأنه هدى للمتقين: {ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}(البقرة :1)، به تتحقق الهداية للتي هي أقوم في كل أمر من أمور المسلمين، قال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء : 9).
د- وأنه بصائر تبصر المتحقق المتخلق بها، فيكون بذلك من المبصرين للحق العاملين به، قال تعالى: {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن ابصر فلنفسه ومن عمي فعليها}(الأنعام 104).
ه- وأنه نور وضياء، به تستضيء العقول وتستنير القلوب، قال سبحانه:{ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا}(الشورى 52).
إذن فما السر في كتاب هذا شأنه، وهذه وظائفه وطبيعته، لم يحي به المسلمون اليوم كما كانوا أحياء به زمن النبوة والخلافة الراشدة، وفي أزمان متفرقة من حياة المسلمين؟.
إن العاقل ليدرك أن عدم حياة الأمة بالقرآن اليوم، وهو هو الذي حييت به من قبل، إنما يرجع إلى إخلالها الكبير بما يجب عليها نحوه، فالمسلمون اليوم، أعرضوا عن القرآن إعراضا وهجروه هجرا، فلم يتخذوه هدى يهتدون به، ولا نورا يستنيرون به، ولا بصائر يستبصرون بها، حتى إنهم لينطبق عليهم قوله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا}(الفرقان 30.)
فإذا كان حال السلف الصالح من هذه الأمة مع القرآن، يتمثل في صدق الإقبال عليه بالقراءة، والتدبر والفهم، والتبصر والاهتداء، فإن حال الخلف اليوم كحال المخلفين من الأعراب حينذاك، ومن هاهنا فإن عودة الحياة الحقة للمسلمين، حياة العزة والكرامة، ومن ثم قيامهم بالوظائف والأمانات المنوطة بهم، وفي مقدمتها أمانة الاستخلاف والشهادة على الناس أجمعين، وأمانة الترشيد والتوجيه للعاملين، فإن عودة هذه الحياة وأداء هذه الأمانات العظيمة لن تتم علما وعملا ومنهاجا، إلا بعودة المسلمين عودة نصوحا للقرآن الكريم، فهذه العودة وحدها فقط، هي الكفيلة ببعث الحياة من جديد في جسم الأمة المسلمة، وهي الكفيلة أيضا بتجديد الدين تحققا وتخلقا في النفس والمجتمع، وأي عودة لأي شيء آخر غير القرآن، فإنما هي عودة إلى الحياة الميتة؛ حياة الضياع والتيه والضلال.
وحتى تكون عودة المسلمين في هذا الزمان إلى القرآن عودة راشدة، فإن السبيل إلى ذلك هو أن نعرف ما يجب علينا في حق الكتاب المسطور -القرآن- والكتاب المنظور -الكون-، وفي هذه المقالة سأتناول ما يجب علينا -نحن المسلمين- نحو كتاب الله المسطور، لأن التحقق بهذه الواجبات والتخلق بها هو السبيل الذي يبصرنا بواجبنا نحو الكون وعمارة الأرض بالخير والصلاح.
فأما ما يجب علينا نحو القرآن الكريم، فيمكن اختصاره في الواجبات التالية :
أولا: واجب القراءة : لقوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن}(المزمل 20)، فعلى المسلمين اليوم أفرادا وأسرا ومجتمعات، أن يخصصوا أوقاتا بالليل والنهار سرا وعلانية لقراءة القرآن وتلاوته، قراءة تكون على منهاج قراءة النبيصلى الله عليه وسلم له، كما هو واضح في قوله عز وجل:{وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا}(الإسراء 106).
ثانيا: واجب الاستماع والإنصات: فالواجب أن يكون استماعنا للقرآن وإنصاتنا له مقدماً على استماعنا لأي كلام آخر دونه، فعلى قدر استماع الآذان وإنصات العقول والقلوب الواعية للقرآن، يكون استحقاق الرحمة للمستمع المنصت؛ قال تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون}(الأعراف 104)، فالحرص على الاستماع والإنصات لكلام الله تعالى بصدق وإخلاص يثمر في قلب المستمع محبة القرآن، وهذه المحبة هي مفتاح الإقبال على القرآن بالقراءة والتدبر والفهم والعمل، وهذه الأمور هي طريق الاستبصار ببصائر القرآن والاهتداء بهدايته المنهاجية في التفكير والتعبير والتدبير.
ثالثا: واجب الترتيل: فالله تعالى أمر نبيهصلى الله عليه وسلم بترتيل القرآن الكريم، وهو أمر للأمة أيضا فقال سبحانه: {ورتل القرآن ترتيلا}(المزمل:4)، والمراد هنا بالترتيل: قراءة القرآن على تؤدة وتمهل وتبين حروف(1)، والقصد من قراءة القرآن بمنهج الترتيل، هو التمكن من تأمل المقروء وفهمه؛ يقول ابن كثير في هذا المعنى: (أي اقرأ على تمهل، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره)(2)، فالترتيل التعبدي للقرآن سبيل التبصر والتبصير بنور القرآن وبصائره
والمطلوب أيضا في القراءة بالترتيل أن تكون بمنهج التلقي، فالتلقي هاهنا استقبال القلب للقرآن، وهو استقبال على سبيل الذكر حتى تثمر التبصر في فكر القارئ المرتل، وفي فهمه، وتثمر ثمرة الخشوع القلبي { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد}؛ فالترتيل يقتضي استحضار ثقل آيات المرتل وعظمة بصائره وكأنها تنزل عليه غضة طرية، تماما كما كان الرسولصلى الله عليه وسلم يقرأ ويرتل استجابة لأمر ربه: {ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}(المزمل: 4-5)، وكما في قوله تعالى أيضا: {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم}(النمل :6).
رابعا: واجب التدبر: والأصل فيه قوله تعالى:{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب اقفالها}(محمد: 24)، فالتدبر وسيلة لاستثمار القرآن واستقامة الفكر وصحة الفهم عن الله تعالى، وهو مفتاح خشوع القلب واستحضار عظمة الله تعالى، وبلوغ أعلى درجات المعرفة واليقين. ولأهمية التدبر هذه، فقد حذر الحق سبحانه من غفلة القلوب عن الخشوع لذكر الله، فقال:{ ألم يان للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق}(الحديد: 16).
إن الخشوع خصيصة من خصائص هذا القرآن، فطبيعته التأثير في الأنفس والمخلوقات كلها حتى الجامدة منها كالجبال؛ قال تعالى: {لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله}(الحشر :21)، وقــال سبحانه: {تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}(الزمر :23).
خامسا: واجب التعلم والتعليم: فتعلم القرآن وتعليمه واجب على كل مسلم مكلف، فهو الواجب الشرعي الذي يحصل به الفقه في الدين، فالله تعالى علم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن، إذ به تعلم الإيمان وتعلم الإسلام وتعلم الشرعة والمنهاج، وبه علم أصحابه ذلك كله، فصاروا علماء بالقرآن.
والأصل في هذا الواجب قولهصلى الله عليه وسلم : (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)(3)، وقوله أيضا: (تعلموا القرآن والفرائض وعلموا الناس فإني مقبوض)(4).
إن قضية تعلم القرآن وتعليمه؛ مسألة ينبغي العناية بها قبل العناية بتعلم وتعليم أي شيء آخر، عملا بمنهاج تعليم الله تعالى لرسوله وتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولهذا كانت هذه القضية هي أساس انطلاق الأمة المسلمة كما وكيفا إذا ما أديت وأتقن أداؤها، أما إذا أهملت كما هو واقع الحال اليوم، وقدم عليها غيرها من العلوم والمعارف كيفما كانت، فإن ذلك هو أساس التيه والضلال، والتخلف والانحدار، والتبعية والانجرار، تماما كما هو حال الأمة في هذا الزمان. وعلى هذا الأساس، فإن واجب تعلم القرآن وتعليمه ينبغي أن يكون هم المسلمين جميعا، فتعطى له الأولوية في البيت، وفي مؤسسات التربية والتعليم، وفي وسائل الإعلام كلها، مقروءة ومسموعة ومرئية، وفي المؤسسات الاجتماعية والثقافية، المدنية والعسكرية، الخاصة والعامة.
وإلى جانب هذه العناية العامة بهذا الواجب من قبل المسلمين أفرادا وأسرا ومجتمعات ودولا، فإنه ينبغي أن تخصص له مؤسسات خاصة تعنى بتعليم القرآن للناس الكبار منهم والصغار، الذكور والإناث على حد سواء.
———–
1- البيضاوي في تفسيره : 5/405 .
2- ابن كثير في تفسير: 4/435.
3- البخاري في فضائل القرآن برقم :4639.
4- رواه الترمذي عن أبي هريرة في الفرائض برقم: 2017، و الدار مي في المقدمة بلفظ آخر عن ابن مسعود برقم :223.
السلام عليكم
جزاكم الله خيرا.. وبارك الله في جهودكم ..
أود أن تزودوني بالبريد الإلكتروني ل
د محمد الأنصاري .. فلدي بحث حول القرآن
ومنهج التلقي والفهم .. حتى يطلع عليه
من أجل التقييم والإستفادة مما فتح الله عليه
في هذا المجال .
وجزاكم الله خيرا
والأمر بالنسبة لي في غاية الأهمية..فأرجو منكم الاهتمام بطلبي ..
بارك الله فيكم