بعدما تحدثنا في الحلقة الماضية عن طبيعة القرآن الكريم ووظيفته ومكانته وعن بعض واجباتنا اتجاهه، نواصل بعون الله وتوفيقه بيان واجبات أخرى مع بيان معنى التدارس ومجالسه قيمة ومشروعية ومنهجا
سادسا: واجب الدعوة إليه والدعوة به: والأصل في هذا الواجب قوله عز وجل :{وجاهدهم به جهادا كبيرا}(1)(الفرقان : 52 )، وقوله عليه السلام: ((بلغوا عني ولو آية))(2).
إن من أولى الأولويات الدعوية اليوم، أن تعطى الأولوية للقرآن الكريم بالدعوة به وبمنهاجه وأسلوبه، فهو كلام الله الذي تقشعر منه الجلود، وتتأثر به جميع المخلوقات، يتأثر به الإنس والجن، ويتأثر به الحيوان والحجر والشجر، لمـا أودعه الله تعالى فيه من أسرار وبراهين وحجج، ويكفي أن الحق سبحانه وتعالى جعله روحا، والروح هي سر الحياة، في كل شيء، فإذا فقدت، حل الموت محلها في كل شيء، ولهذا قيل في تفسير قوله تعالى: {وجاهدهم به جهادا كبيرا}؛ إي جاهدهم بالقرآن واتل عليهم ما فيه من القوارع والزواجر، والأوامر والنواهي(3).
والمتأمل اليوم في واقع المسلمين يرى خطورة ما آل إليه أمر الدعوة بالقرآن وإليه، من إهمال وضياع، حتى إن مؤسسات الدعوة والدعاة أهملت هذا الواجب بإهمال الأمة له، وأصبحت تعنى بغيره في دعوتها إلى الإسلام، إلى درجة أن الكثير من أبنائها أصبح يتحرج من ذلك خشية من الناس، هذا مع أن الدعوة إلى القرآن وبه هي أحسن دعوة على الإطلاق، فهي منهج النبوة وسر نجاح الدعوة في عصر الرسالة والخلافة الراشدة ، فالقرآن بلاغ الله تعالى للناس {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الالْبَابِ}(إبراهيم : 52) ومقتضى هذا البلاغ تبليغه للناس إنذارا لهم وإقامة للحجة عليهم قال تعالى : {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(الأنعام : 51) .
سابعا: واجب تعظيمه وتقديسه: فهو كلام الله المقدس، وتقديسه وتعظيمه تقديس وتعظيم لله تعالى، فهو سبحانه القدوس، ومن ثم فلا يجوز الاستهانة به أو العبث أو الإهمال، إذ كل ذلك وما يدخل في معناه دليل على النفاق وعدم الإيمان الحق بالقرآن. أما تعظيمه فدليل على التصديق به، ويكون بالقلب واللسان والجوارح والحال، ولعل سبب إهمال المسلمين لما يجب عليهم نحو القرآن الكريم؛ هو إهمالهم لواجب تعظيمه وإجلاله قلبا وقالبا تحققا وتخلقا.
ثامنا: واجب البحث والدراسة العلمية الأكاديمية: فالأبحاث العلمية العميقة، والدراسات الرصينة، التي تنطلق من النص القرآني، من أوجب الواجبات على المسلمين في كل زمان نحو كتاب الله تعالى، لأنه مصدر كل شيء وأساسه، فهو كتاب إعجاز وتشريع وهداية، إعجاز علمي بالمعنى العام للعلم، وإعجاز تشريعي بالمعنى العام للتشريع؛ وإعجاز هداية بالمعنى العام للهدى المنهاجي؛ واكتشاف هذا الإعجاز أو استنباطه يحتاج إلى بحوث علمية متخصصة؛ تتولى مهمتها الجامعات والمعاهد العليا ومراكز الأبحاث الخاصة، ويشرف عليها علماء من أهل الخبرة والاختصاص حتى تثمر وتنتـج، كـل في مجالها. فالبحوث المتخصصة في علوم الشريعة تستنبط التشريعات والقوانين والأحكام الشرعية وغيرها، وتكتشف الإعجاز التشريعي في القرآن. والبحوث المتخصصة في العلوم المادية والإنسانية؛ تكتشف الإعجاز العلمي المادي والإنساني المبثوث في ثنـايا الوحي، واكتشافه يحتاج إلى باحثين متخصصين في هذه العلوم مؤمنين بالرسالة القرآنية المعجزة.
فأداء هذا الواجب الرسالي العلمي نحو القرآن الكريم؛ ييسر سبيل العودة إلى الدين، كما ييسر سبل الدعوة إليه وبه، لأن اكتشاف هذه الأنواع من الإعجاز العلمي في القرآن يؤكد أنه وحي من الله تعالى، وأنه معجز بلفظه ومعناه وبراهينه العلمية، معجز بهداياته وبصائره؛ معجز غاية الإعجاز بأحكامه وتشريعاته، فيزداد المؤمن بذلك إيمانا، ويقتنع الكافر فيؤمن، وتقام الحجة على من جحد وأصر على الكفر والضلال.
تاسعا: واجب العمل بالقرآن والاحتكام إليه في أمور الدين والدنيا: فالمسلمون اليوم إما ضلوا السبيل بسبب انفراط هذا الواجب في حياتهم، فاتبعوا الأهواء والأعداء، وحكموا في أمورهم القوانين الوضعية المستوردة والمحلية، فصار التدين فيهم مغشوشا، والتشريعات والقوانين التربوية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية غير مؤسسة على الوحي، ولا مراعية لأحكامه ومقاصده، ولا مهتدية بهداه. والقرآن إنما أنزل للعمل به وتحكيم شريعته، فضاعت الأمة بإضاعتها لشريعته وتبعيتها العمياء لقوانين الأعداء وتشريعاتهم التي يحكمها العجز والقصور والضلال، والله تعالى يقول: {ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }( آل عمران :85 ) .
عاشرا: واجب الدراسة بمنهج التدارس: وهو ما يصطلح عليه عند العلماء الربانيين بواجب المدارسة القرآنية، هذا الواجب الذي ضمر في الأمة ضمورا خطيرا، فحلت محله أمور أخرى لا تخلو من فائدة، إلا أنها أقل منه كثيرا.
إن المدارسة القرآنية هي أم الواجبات المتقدمة وأساسها، ففي إطارها يتم واجب القراءة بمنهج الترتيل، ويتم الاستماع والإنصات للقرآن، ويتم التعلم والتدبر، ولهذا فإن الحديث عنها يقتضي تفصيل الكلام في معناها ومشروعيتها ومنهجها وثمارها وفضائلها.
1- معناها: المدارسة مشتقة من مادة “درس”، يقال درسَ الكتابَ يدرُسه دَرْساً ودراسةً، أي ذللـه بكثرة القراءة حتى انقاد لحفظه، ودرس الكتاب: تَعَلَّمَهُ، ويقال درست السورة أي حفظتها. والمُدارِسُ : الذي قرأ الكتب ودرسها، والمِدْراس: البيت الذي يُدْرَسُ فيه القرآن، وفي الحديث: ((تدارسوا القرآن))(4)؛ أي اقرأوه وتعهدوه لئلا تنسوه. وأصل الدراسة: الرياضة والتعهد للشيء(5)، والمدارسة من هذا القبيل. يقال تدارس القوم القرآن: أي قرأوه وتدبروا معانيه وقلبوا النظر في فهمه واستخلاص هداه، فالمدارسة على صيغة مُفَاعَلة، والتدارس على وزن التفاعل، والمراد بها المشاركة الجماعية في فهم القرآن وإدراك أسراره واستنباط بصائره وهداياته.
2- مشروعيتها: المدارسة القرآنية مشروعة بالقرآن والسنة، فأما القرآن فقوله تعالى: {ولكن كونـوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}(آل عمران: 78)، وأما السنة فحديث ابن عباس رضي الله عنهما قــال: ((كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول اللهصلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة))(6). وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه: ((…ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده…))(7).
3- منهجها: إن الاهتداء في المنهج للتي هي أقوم هو أساس النجاح في كل شيء، إذ بقدر التفقه في المنهج والرشد فيه، يكون مستوى النجاح كما وكيفا.
ومن هاهنا فإن نجاح المدارسة يتوقف على مدى النجاح في اتباع منهجها الخاص، فالقرآن الكريم وظيفته الأساس، هداية الناس إلى صراط الله المستقيم، ولعل هذا هو السر في تكرار الفاتحة في كل الصلوات المفروضة والمسنونة لتضمنها دعاء خاصا في بيان القصد من القرآن ووظيفته الأساس: {اهدنا الصراط المستقيم}. إنها وظيفة الهداية للتي هي أقوم وأرشد في التفكير والتعبير والتدبير، وهي المشار إليها في قوله تعالى:{إن هـذا القـرآن يهدي للـتي هـي أقوم}(الإسراء : 9)، فبلوغ مرتبة الأقوم في الهداية يتوقف على اتباع المنهج الأقوم في تدارس القرآن الكريم. والمدارسة القرآنية لها منهجها الخاص الذي به تتم، وهو منهج يقوم على قاعدتين: -يتبع-
—
1- بداية الآية : { فلا تطع الكافرين..}
2- البخاري في أحاديث الأنبياء برقم: 3202، والترمذي في العلم برقم: 2593.
3- الشوكاني : فتح القدير: 4/81.
4- تحفة الأحوذي: 8/215.
5- لسان العرب لابن منظور، مادة “درس”.
6- البخاري في بدء الوحي حديث رقم :5.
7- مسلم في الذكر والدعاء: 4867.