أنت تذكر ما حدثتك به في العدد الماضي عن الإمام الفقيه أبي بكر ابن اللباد رحمه الله وصبره على زوجة سيئة الخلق، ونص القصة كما ذكرها القاضي عياض رحمه الله عن محمد بن إدريس هو: وكانت له -يعني أبا بكر بن اللباد – امرأة سليطة، تؤذيه بلسانها، فحكي أنها قالت له يوماً: يا زانِ! فقال: سلوها، فبمن زنيت؟ قالت: بالخادم، قال: سلوها لمن الخادم؟ قالت: له. فقال له أصحابه: طلقها، ونحن نؤدي حقها، فقال: أخشى إن طلقتها، أن يبتلى بها مسلم، ولعل الله دفع عني بمقاساتها بلاءً عظيماً، ثم قال: بل حفظتها في والدها، فإني خطبت إلى جماعة فردّوني، وزوجني هو لله تعالى، وكان يفعل معي جميلاً، أفتكون مكافأته طلاقها؟ وكان يقول: لكل مؤمن محنة، وهي محنتي”
ثم وقفتُ في غضون هذا الأسبوع على قصة لتلميذه الإمام الفقيه أبي محمد عبد الله بن أبي زيد رحمه الله ذكرها ابن العربي رحمه الله في أحكامه، فقال: أخبرني أبو القاسم بن أبي حبيب بالمهدية، عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة المعروفة، وكانت له زوجة سيئة العشرة، وكانت تقصر في حقوقه، وتؤذيه بلسانها، فيقال له في أمرها -أي يطلب منه فراقها- فيسدل بالصبر عليها، وكان يقول: أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي، وما ملكت يميني، فلعلها بعثت عقوبة على ديني، فأخاف إذا فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها(1)
إذا تأملت القصتين رأيت أن هذين الإمامين اجتمعا في مسألة مهمة جدا هي صبر كل منهما على زوجة سيئة الخلق، ولكن الزاوية التي نظر منها كل منهما تختلف عن الزاوية التي نظر منها الآخر:
فالإمام ابن اللباد رحمه الله نظر إلى:
1- خوفه من أن يبتلى بها مسلم، وفي هذا أن المسلم ينبغي أن يجتهد في دفع البلاء عن إخوانه ما استطاع.
2- النظر إلى جانب النعمة في ما وقع، فلعل الله دفع عنه بها بلاء أكبر، ومصيبة أعظم.
3- استحضاره لما صنع والدها معه من الجميل والمعروف، مما حمله على مقابلته بجميل ومعروف آخر هو تحملها والصبر على أخلاقها، وكثير من الأزواج ينسون هذا.
وأما ابن أبي زيد رحمه الله فنظر من زوايا أخرى:
1- نظر إلى عظيم نعم الله عليه، فرأى سوء أخلاق زوجته أمرا لا قيمة له وسط بحر تلك النعم.
2- نظر إلى نفسه فاتهمها بالتقصير في طاعة الله تعالى، والبعد عن محارمه، وأنه أهل للعقوبة، وهذه المرأة عقاب له من الله على تقصيره.
3- نظر إلى العقوبة فرآها ألوانا وأشكالا ومستويات، فرأى أن الله لطف به حين جعل عقوبته في زوجته، وما يدريه إن فارقها أن تنزل به عقوبة أشد.
رحمك الله أبا بكر ابن اللباد، ورحمك الله أبا محمد ابن أبي زيد، فبمثلكما يقتدى، وفي أخباركما ينظر الصالحون، ويعتبر المعتبرون.
——-
1- أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (1/ 468)