حدثنا مصعب بن أحمد قال : قدم أبو محمد المروزي إلى بغداد يريد مكة، وكنت أحب أن أصحبه، فأتيته، واستأذنته، وسألته الصحبة، فقال : على شرط، يكون أحدنا الأمير لا يخالفه الآخر فقلت : أنت الأمير. فقال يا أبا محمد، لا، بل أنت. فقلت : أنت أسبق وأولى. فقال نعم فلا تعصني. قلت : لا.
فخرجت معه، فكان إذا حضر الطعام يؤثرني، فإذا عارضته بشيء قال : ألم أشترط عليك ألا تخالفني، فكان هذا دأبنا حتى ندمت على صحبته لما يلحق نفسه من الضرر، فأصابنا في بعض الأيام مطر شديد ونحن نسير، فقال لي : يا أبا محمد، اطلب الميل، فلما رأينا الميل، قال لي : اقعد في أصله، وجعل يديه على الميل وهو قائم قد حنا عليه، وعليه كساء قد تخلل به يظللني من المطر حتى تمنيت أني لم أكن خرجت معه، فلم يزل هذا دأبنا حتى دخلنا مكة…
هذا هو الإيثار يمشي على الأرض، ويملأ صوته آذان السالكين، ويهز أركانهم، كأني به يُسَائلهم : متى تصلون إلى هذه المنزلة، وترتعون في رياضها النضرة، وتضمخون قلوبكم بأريحها الفواح.
الإيثار خصلة من خصال الخير، وسلعة نافقة بين خلص المؤمنين، فهم كما قال ربهم : {ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. الإيثار شعار الأبرار، ودثار المُصطفين الأخيار. الإيثار احتقار للدنيا وزهد فيها، وانعتاق من قيودها، ونسيان لحظوظ النفس. الإيثار انتصار على الشهوات، ومسارعة إلى رضوان رب الأرض والسموات، أليس هو القائل جل في علاه : {وما عند الله خير للابرار}.
فمتى تخرج أخي من ظلمات أنانيتك إلى نور الإيثار، وتحلق بفؤادك في سمائه الصافية، وتعب من مياه مزنه الطاهرة النقية؟! -عسى أن يكون قريبا-.