إن أمن أي مجتمع لا يتحقق إلا بمقدار ما له من حصون كمّا وكيفا، ومقدارِ رجاله القائمين على استقراره واستمراره عددا ونوعا، وإن حصون المجتمع لا تقتصر على أجهزته المادية وإنما تتعداها إلى ما هو فكري وروحي وأخلاقي، وإلى ما هو تاريخي وحضاري، وإن حماة البلد ليس هم الجنود وحدهم وإنما كل مواطن أُعِدّ إعدادا صحيحا وصالحا في نطاقه ومجاله أيا كان هذا المجال…
إن أمن الأمة مثل أمن أي جسم حي يستلزم عملين متوازيين في البناء: دفع كل ما يضعف ويفني، وجلب كل ما يقوي ويغني.
وأمتنا المعاصرة توالت عليها قرون عجاف، مالت بوصَلتُها إلى الانحراف والتجافي، وتنكبت طريق التقوى والعفاف، وتكدر ما كان لها من التآخي والتصافي، وتعددت لديها المرجعيات واختفى ـ أو كاد ـ ما كان يميزها من خصوصيات، واختفى أيضا ما كان بين أبنائها من العدل والفضل، واتسعت دائرة الجور والظلم وانمحت آثار الحِلْم والعلم، فتهدمت حصونها وأصبحت في حاجة ماسة إلى: الأمن من الأعداء، والأمن من قلة الغداء رغم وفرة العطاء، والأمن من تحكم النزوات والأهواء، ومن القهر والطغيان والكفر، والأمن من الجهل والغفلة والنوم، والأمن من الفراغ الروحي والخواء الفكري، والأمن من اليتم التاريخي والعقم الحضاري…
إن أمتنا اليوم أصيبت في جميع حصون أمنها، فشحب لونها وقل مزنها، وخف بين الأمم وزنها، ولا يتأتى لها العودة الفاعلة، ولا المشاركة الحضارية الوازنة العادلة إلا بالعمل وفق سنن الشهود الحضاري التي أرشد إليها الله جل وعلا في القرآن المبين، وفي سِيَر سائر المرسلين، وفي مقدمتهم خاتم النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين. وعلى رأس تلك السنن ضرورة توفير أنواع من الأمن وعلى رأسها:
-الأمن الديني: لأن الدين الإسلامي هو هوية الأمة ودليل وجودها وبرهان تميزها، ولا أمن للأمة في ظل التطاول على المقدسات والثوابت والخصوصيات، قرآنا وسنة، رموزا وأعلاما. فالحاجة ماسة إلى تجنيد الطاقات كل الطاقات، وتوظيف كل الإمكانات لإحلال الدين مكانته في النفوس والقلوب، واعتماده في حل المشكلات والخطوب، في جميع القطاعات والتخصصات إعلاما وتعليما وقضاء واقتصادا، داخليا وخارجيا…
-الأمن التربوي والأخلاقي: إذ لا أمن لأي أمة في ظل الفقر الأخلاقي والتنكر للقيم والمبادئ الإنسانية المثلى، وصدق الشاعر حين قال:
وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت *** فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وأمتنا اليوم تحتاج إلى جهود تربوية كبيرة وكبيرة جدا من أجل غرس القيم وتثبيت الأخلاق وتصحيح التصرفات وفق مقومات ديننا الحنيف، فبتحصين هذه الجبهة تحصن باقي الجبهات، وببناء الأجيال وتربية الرجال على أصول التربية الأخلاقية الصحيحة تقي الأمة نفسها من قواصم الفناء والزوال.
-الأمن العلمي: فلا أمن مع وجود الجهل والأمية بجميع أنواعهما، فالعلم هو مرقاة كل الأمم والحضارات، وهو معيار التفاضل بينها، ولذلك فهو الحصن الذي ينبغي ألا يلحقه الإهمال، بل يجب أن يخص بالتقدير والإجلال والتضحية المتفانية، لكي تستفيد منه كل الأجيال، وعلى رأس العلوم الواجب رعيها العلوم الشرعية ثم العلوم الأخرى النافعة في إقامة عمران بشري نافع.
-الأمن اللغوي: إذ لا أمن لأمتنا ومقومات هويتها اللغوية تنتهك ويعتدى عليها بجميع أنواع الاعتداء من التهميش والإقصاء إلى التشويه والازدراء.. وتحتاج هويتنا اللغوية إلى تجنيد واسع لكل أبناء الأمة لحمل لوائها ورفع أعلامها، وإعمالها الإعمال الكفيل بتحقيق حضورها الفاعل في العطاء الإنساني.
-الأمن التاريخي والحضاري: هذا حصن تآكلت أسواره وتصدعت أركانه وقل من يوليه ما يستحق من العناية والرعاية ويخصه بما يلزم من الحماية والوقاية، فكثرت الشكوك والطعون، والتخرصات والظنون. وبدون حماية جبهة التراث والحضارة -علوما وآدابا وفنونا وعمارة وقوانين وتشريعات- بما يلزم من الحماية العلمية والتعليمية والتربوية فإن عوامل المحو ستلحق الأمة عاجلا غير آجل…
وبتعبير جامع فإن الأمة أصبحت اليوم في أمس ما تكون الحاجة إلى تأمين ماضيها لتأمين حاضرها ومستقبلها، وتأمين هويتها الإسلامية والتاريخية، وحماية خصوصياتها الثقافية والحضارية بجميع الأساليب والوسائل المشروعة والناجعة.
فالبدار البدار قبل فوات الأوان فإن فجر الأمة قادم وسيهيئ الله له من يحبهم ويحبونه.