أ- قال ابن اسحاق مواصلا حكاية قول حليمة السعدية:
قالت : فرجعنا به، فوالله أنه بعد مقدمنا بأشهر مع أخيه لفي بهم (جمع بهمة : أولاد الضأن والمعز) لنا خلف بيوتنا، إذ أتانا أخوه يشتد : (يسرع)، فقال لي ولأبيه : ذاك أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاه، فشقا بطنه، فهما يسوطانه (أي يضربانه). قالت : فخرجت أنا وأبوه نحوه، فوجدناه قائما منتقعا لونه (أي متغيرا من الخوف). قالت : فالتزمته (أي اعتنقته) والتزمه أبوه، فقلنا له : ما لك يا بني: قال : جاءني رجلان عليهما ثياب بيض، فأضجعاني وشقا بطني، فالتمسا شيئا لا أدري ما هو. قالت : فرجعنا إلى خيامنا. قالت : وقال لي أبوه يا حليمة، لقد خشيت أن يكون هذا الغلام قد أصيب فألحقيه بأهله قبل أن يظهر ذلك به، قالت : فاحتملناه، فقدمنا به على أمه، فقالت : ما أقدمك به يا ظئر(الظئر : العاطفة على ولد غيرها) وقد كنت حريصة عليه، وعلى مكثه عندك؟ قالت : فقلت : قد بلغ الله بابني وقضيت الذي علي، وتخوفت الأحداث عليه، فأديته إليك كما تحبين، قالت : ما هذا شأنك، فاصدقيني خبرك. قالت : فلم تدعني حتى أخبرتها. قالت : أفتخوفت عليه الشيطان؟ قالت : قلت نعم : قالت : كلا، والله ما للشيطان عليه من سبيل، وإن لبني لشأنا، أفلا أخبرك خبره، قالت : بلى، قالت : رأيت حين حملت به، أنه خرج مني نور أضاء قصور بصرى من أرض الشام، ثم حملت به، فوالله ما رأيت من حمل قط كان أخف ولا أيسر منه، ووقع حين ولدته وإنه لواضع يديه بالأرض، رافع رأسه إلى السماء، دعيه عنك وانطلقي راشدة. (السيرة النبوية 1/164-165)
ب- ممايستفاد من النص:
1- أنه صلى الله عليه وسلم أقام مرة ثانية في بني سعد أشهرا بعد الإقامة الأولى التي أتم فيها سنتي الرضاع كما تقدم (حتى مضت سنتان وفصلته.. فرجعنا به، فوالله أنه بعد مقدمنا بأشهر..) وذلك جعله يستفيد من البادية كثيرا في لسانه وجسمه وعقله.
2- أنه شارك في رعي الغنم في هاته السن المبكرة، ثم رعاها بعد كبيرا لأهل مكة على قراريط، وما “من نبي إلا وقد رعى الغنم” إعدادا له. (..مع أخيه لفي بهم لنا خلف بيوتنا).
3- إن حادثة شق الصدر وقعت له أول ما وقعت وهو في الثالثة من عمره (فوالله أنه بعد مقدمنا بأشهر.. إذ أتانا أخوه يشتد..) وفي صحيح مسلم (باب الإسراء من كتاب الإيمان).
وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست مِنْ ذهب بماء زمزم ثم لأَمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني ظئره) فقالوا : إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس : وقد كنت أرى ذلك المخيط في صدره”.
ثم تكررت الحادثة أول الإسراء قبل العروج إلى السماء، كما في صحيح مسلم أيضا باب الاسراء.
4- إن حادثة شق الصدر هاته من أكبر التحضيرات لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد نزع من صدره في وقت مبكر أصل الغل، وأخرج من قلبه حظ الشيطان، فصار طاهرا مطهرا، غير قابل لأن تؤثر فيه البيئة و المحيط أثرا غير صالح، إذ لم يعد موجودا فيه ما به تحصل الاستجابة لذلك والتجاوب معه، فنما زكيا وترعرع نقيا لتلقي الحق، حتى جاءه الحق وهو أكثر ما يكون استعدادا.