جاء كتاب ربنا آمرا بالائتلاف ووحدة الصف، ناهيا عن كل تدابر واختلاف، قال تعالى: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}، وقال سبحانه: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}. وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على بناء جيل من الصحابة كان النموذج الأعلى في الاجتماع على كلمة الله العليا والحفاظ على العروة الوثقى حتى شهد لهم الباري جل وعلا قائلا: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، واستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر ربه حينما قال تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص}، فبنى صلى الله عليه وسلم أمة ذات صف لا يقبل الافتراق ولا الشقاق، ويعلو فوق كل محاولة اختراق من قبل أهل الشقاق والنفاق.
ولقد ظلت الأمة قوية بوحدتها، عاملة بمبادئها، منشغلة بنشر دعوة ربها، رغم ما حدث من اختلاف، إلا أنه اختلاف كان أكثره مبنيا على الاجتهاد المسنود، والاختلاف العلمي المحمود، الصادر من أهله وفي محله وبشرطه، وبأسبابه المشروعة وآدابه الرفيعة، فأثمر ذلك ثروة في العلم والعمل، واتسع في الناس الحلم والأمل، وتألقت أنوار الدين في الآفاق، وتلاحمت الأمة في اتساق ووفاق، وقويت شوكتها في كل المواقع والحدود.
وما أصيبت الأمة يوم أصيبت إلا بعد أن ابتعدت عن ربها، وتفرقت في دينها، ودخلتها أمراض الأهواء والشبهات والشهوات، وآثرت الشقاق على الوفاق، والتفرق المذموم على الائتلاف المحمود، وتركت الاعتصام بحبل الله المتين، وتعلقت تارة بالدنيا وحب الذات، وتارة بأعداء الأمة والدين، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من ضعف العلم بالدين، واجتناب العمل بالشرع الحكيم، وابتعاد عن الأخذ بأسباب التقدم القويم، وقلة الاعتزاز بما للأمة من مقومات وخصوصيات. فكثرت الطوائف، وانهالت المصائب والمهالك، وساد الصراع والتشرذم في كل جانب.
إن التأليف بين قلوب المسلمين والتصالح بين ذواتهم أصبح الآن مطلوبا أكثر من أي وقت مضى، إذ لا عزة إلا بالوحدة، فهي العاصمة من كل قاصمة، وإن التاريخ والواقع معاً يدلان بشكل واضح أن التقدم وبناء الحضارة لا يتم إلا بالوحدة. وأمة الإسلام هي الأَوْلى بأن تكون واحدة موحدة، وأن تكون لها الريادة في هذا الباب، لا لمتطلبات الواقع فحسب، ولكن عملا بما ورد في خطاب رب العالمين لها حينما جعلها خير أمة أخرجت للناس، وجعل خيريتها رهينة بالاعتصام بحبله المتين.