بعد أن حدثتك في العدد الماضي بما عرفتُ ورأيتُ من حال أحد الصالحين وهو يجود بنفسه، أعود اليوم لأحدثك بما حُدثتُ به عن حال رجلين -أحسب أنهما من صالحي هذه الأمة- وهما يجودان بنفسيهما. أما الأول فاسمه عبد الرحمن وهو من قصر تنغراس ضواحي الريصاني، هو من عامة الناس، ليس صاحب علم ولا جاه ولا سلطان ولا مال، حدثتني أختي أنه كان رجلا معروفا بالخير والصلاح، أفعاله رضية، وأحواله سنية، استوقفني من خبره رحمه الله أنه نادى على زوجه قبل وفاته بوقت قصير جدا وقال يا فلانة: أعدّي أدوات الغسل من ماء وإناء وما إليهما، وأحضري الكفن، فقد حضر الأجل!! فاستغربت وقالت: ما الذي حملك على هذا؟ فقال: -وهو رجل ضرير- إني أرى حمامتين ناصعتي البياض تقتربان مني، وما أُراهما إلا طليعة الملائكة التي جاءت لقبض أجلي!! ومات من يومه!! سألت أختي عن أحواله قبل الموت فذكرت لي شيئا كثيرا من ذلك: > أنه دخل بيته مرة فوجد فيها حزمة حطب فسأل عن مصدرها، فعرف أن إحدى بناته كانت مكلفة برعي غنيمات له، فرأت بعض صوحباتها تجمعن حطبا من الغابة، ففعلت مثلهن، وجاء بذلك إلى البيت، فغضب الرجل وطلب من ابنته حمل الحطب والعودة به إلى الغابة، ووضعه في أماكنه خوفا منه أن يكون كله أو بعضه ملكا لأحد. > في الأيام الأخيرة من حياته، وقد عجز عن الذهاب للمسجد طلب من أهله المناداة على إمام المسجد لطلب السماحة والصفح والعفو، فقالت زوجه: لا يربطك به عمل ولا تجارة تستوجب ذلك، فقال: لقد كنت أسمع بعض الناس يتكلم فيه ولا أنهاهم، وهو ظلم له، وأريد الآن أن يسامحني. وأما الثاني فهو أيضا رجل من عامة الناس وفقراء المسلمين، هو رجل نذر نفسه لخدمة المسجد: فتحا لأبوابه وتنظيفا لحُصُره وجدرانه وتسخينا لماء الوضوء بما تيسر من حطب وأعواد، وأذانا على مناره، وإمامة في محرابه دون مقابل إلا ما يرجو من ثواب الله وغفرانه، كان هذا الرجل بقصر قصيبة الحدب قرب الريصاني، استوقفني من حاله رحمه الله أنه انقطع عن الكلام قبل وفاته بثلاثة أيام، فكان -كما حدثني الثقة- لا ينبس ببنت شفة، ولا يعرف أحدا ممن حوله، فإذا حضر وقت الأذان أذن كما كان يؤذن في المسجد: صبحا وظهرا وعصرا ومغربا وعشاء، واستمر به الحال كذلك إلى أن توفاه الله تعالى. هما حالان من أحوال الصالحين عند مغادرة هذه الدنيا، فاجتهد لعلك تنال بفضل الله خاتمة حسنة، ولا تنساني من دعائك، وفقنا الله وإياك.
ذ. امحمد العمراوي من علماء القرويين amraui@yahoo.fr