قال الله جلت حكمته : {قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسئلون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون. إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين}
ومن ثم توجه الخطاب إلى الخراصين الكذابين، أهل الشك والريب، الذين ينشرون نظريات الخرص في الدين بغير الحق، وهو القول الجزاف الكاذب، والتخمين الواهم(4) ويبثون مقولاته في كل مكان، يحاصرون بتخرصاتهم الشيطانية دعوة الإسلام هنا وهناك، فأنزل الله عليهم لعنته الشديدة، والعياذ بالله. قال جل جلاله : {قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسئلون أيان يوم الدين} وعبارة الدعاء بالقتل في هذا السياق لعنة أنزلها الله جل جلاله على الخراصين{الذين هم في غمرة ساهون}، والغمرة في الأصل : بركة الماء الكثير، تمتلئ حتى تغطي مقرها، فتغمر من دخلها وتغرقه، وتُستعمل مجازا للدلالة على الشدة، والزحمة، والسكرة، لأن السكران غارق في سكره. يقال : (رجل مغتمر: سَكْران(…) كأنه اغتمره السكر، أي غطى على عقله وستره)(1).
فمعنى {هم في غمرة} أي غارقون في سكرة من الضلال، تغمر عقولهم، وتحجب عقولهم عن إبصار الحق، فهم مخمورون بشهواتهم، متمسكون بشبهاتهم، ساهون، لاهون، غافلون تائهون في ظلمات الكفر والإلحاد، لا يرون لشمس الحق ولا بصيص نور مَرَدوا على الكفر والزندقة والجحود، ولذلك فهم يتخرصون الباطل على الدين، وعلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، فيتهمونه بشتى الصفات والنعوت التي نزهه الله عنها، من مثل قولهم : شاعر، وساحر، وكاهن، وكاذب، ومجنون.. إلى غير ذلك من ضروب الخرص الظالم المبير، ولذلك فهم يسألون من حين لآخر على سبيل السخرية والاستهزاء والتهكم : {أيان يوم الدين}؟ أي : متى سيقع هذا اليوم الذي تتوعدنا به؟ فعبارة “أيان” سؤال عن الزمان بمعنى متى؟ وإنما قصدهم بذلك إنكار حقيقته وجحود وقوعه والهزء بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسخرية منه، بأبى وأمي هو عليه الصلاة والسلام، وسبحان الله إن أتباعهم في عصرنا هذا لا يزالون يحطون من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدر الدعاة إلى الله، ويسخرون منهم بنفس الطريقة ونفس الأسلوب الخبيث.
ويجيب الحق جل جلاله بالحق، عن موعد ذلك اليوم، فيقول : {يوم هم على النار يفتنون} بمعنى يوم هم على النار يعذبون، ويصهرون كما يصهر المعدن في التصنيع والتجريب، ذلك أن أصل استعمال لفظ “الفتنة” في العربية، هو بمعنى صهر المعدن بالنار وتذويبه، قصد اختباره والتحقق من جودته ورداءته. فاستعمل بعد ذلك مجازا في كل تعذيب، وفي كل ضروب الابتلاء الشديد للإنسان. وعلى هذا تعددت استعمالاته في القرآن. فقد نقل ابن منظور عن الأزهري قوله : (جماع معنى الفتنة : الابتلاء، والامتحان، والاختبار. وأصلها مأخوذ من قولك : فتَنْتُ الفضة والذهب، إذا أذبتهما بالنار، لتمييز الرديء من الجيد)(2).
فقوله تعالى : {يوم هم على النار يفتنون} جواب على غير المتوقع، لأنه أجابهم بوعيد ما هم له في الأصل منكرون، وبما كانوا به يستهزئون وهو أسلوب قرآني بليغ في إبطال أوهام الكفار وضلالاتهم. فكأنه قال : إذا كنتم تنكرون حقيقة يوم الدين وعذاب الجحيم، إنكار غواية وجحود، فإن الحجة الوحيدة الكفيلة بإقناعكم، إنما هي دخولكم الفعلي للنار، واصطلاؤكم بلهيبها وسعيرها، وتقلبكم بين مواقدها ودركاتها، ولذلك قال بَعْدُ مباشرة : {ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون} أي ذوقوا عذابكم الذي كنتم تجحدونه وتنكرونه على رسولنا، وتَتَحَدَّونه أن يعجل لكم به، إمعانا منكم في التكذيب والكفران. ها أنتم الآن فيه تصهرون، وتفتنون كما يُفتن المعدن في النار، فذوقوا.. والتعبير بالذوق أشد دلالة على الشعور بالألم والعذاب – والعياذ بالله – وهو أبلغ في الوعيد والتهديد، لما في الأمر به من السخرية والتنكيل والتبكيت. وهو أنسب في الرد على سخريتهم بحقائق الدين وبشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد أضاف لهم هنا عبارة الفتنة وألصقها بهم، إمعانا في بيان أنهم من صُلاتها يقينا، ومن أهلها تحقيقا، وأنهم مواقعوها لا محالة.
ويجوز أن يكون معنى {ذوقوا فتنتكم} : ذوقوا جزاء فتنتكم التي فتنتم بها المؤمنين المستضعفين في الدنيا، إذ عذبتموهم وشردتموهم، وفتنتموهم في دينهم فتونا كما قال تعالى في سورة البروج : {إن الذين فتنوا المومنين والمومنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق}(البروج : 10). كذلك فسرها العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله، وهو معنى حسن وجيه(3).
وفي الجهة المقابلة، يصف الرحمن الطائفة المؤمنة التي اتقت ربها بالغيب، وعملت بمقتضى تقواها، وتدرجت عبر مدارج الإيمان حتى تحققت بمنزلة الإحسان. فلم يضرهم كيد الكائدين ولا إفك الخراصين، بل ثبتوا على عبادة الله وذكره تعالى، توحيدا وتفريدا على كل حال، حتى بلغوا مقامهم العالي في الجنات بفضل الله. ذلك قوله تعالى :{إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالاسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}. ذلك جزاؤهم : جنات وعيون، هكذا بصيغة الجمع في “الجنات” و”العيون”، بما لذلك من إيحاء جميل كريم، دال على الحياة المتدفقة خضرة وأنهارا، ونعيما لا ينفد أبدا، ولذلك قال : {آخذين ما آتاهم ربهم}، أي متسلمين ما وهبهم ربهم من الخيرات والبركات وأصناف النعيم، متقلبين في أحوال اللذة والغبطة والسعادة والسرور. إنها جنات وعيون تفزع إليها النفس الآن، هاربة من فتنة النار وجحيمها.
وأما مسلكهم الذي به وصلوا فهو طريق المجاهدات {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين}، أي أنهم قبل يوم القيامة، وقبل استحقاقهم النعيم، كانوا في هذه الدنيا عاملين على منزلة الإحسان. والإحسان كما هو مشهور من قول النبي صلى الله عليه وسلم : “أن تعبد الله كأنك تراه”(4)، وهو عبادة الله جل جلاله على ما وقع في قلب العبد، من العلم به تعالى، والمعرفة بجلاله وجماله، حتى يكون على ما وصف الرحمن – في موطن آخر – من : {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم}(الأنفال : 2).
نعم، ذلك وازع الإحسان في قلوب المتقين الواصلين، {إنهم كانوا قبل ذلك محسنين}، بسبب ما عرفوا من مقام الرب العظيم وقدره الكبير، وبما وهبهم الله من حبه، والتعلق بأنوار أسمائه وصفاته. فهيجتهم الأشواق، وأرقتهم المحبة، وطرد النوم عن عيونهم وقلوبهم حادي الخوف والرجاء، فأسهروا ليلهم في طاعة الله، باكين، خاشعين، متبتلين، وأهرقوا مهجهم بين يدي مولاهم، متفانين في أداء حقوق العباد، بعد أداء حق رب العباد. فهذا بيان إحسانهم : {كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم}.
————
1- تاج العروس، مادة : “غمر”. مثله في اللسان والقاموس.
2- لسان العرب مادة : (فتن).
3- ن. تفسير الآية في التحرير والتنوير.
4- متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.