عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وأحَبُّ إلى اللهِ من الْمُؤْمِنِ الضَّعيفِ وفي كلِّ خَيْرٌ، اِحْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واسْتعِنْ باللهِ ولا تَعْجِزْ، وإنْ أصابكَ شيءٌ فلا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعََََلْتُ كانَ كَذاَ وكَذا ولكنْ قُلْ : قَدَّرَ الله وما شَاءَ الله فعَلَ، فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ))(رواه مسلم في باب القدر : >باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله، وتفويض المقادير لله<).
في الحديث التنبيه على جملة أمور منها :
القوة الإيمانية وثمارها
>المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير< القوة تعني : العزة والشدة والمنعة في النفس والبدن والعلم والمال والرأي والحجة والبرهان… وعلى صعيد الأمة : القوة العسكرية والإقتصادية والسياسية… والقوة في الخدمات الاجتماعية : تعليم وصحة وتشغيل… فما أحوج الأمة الإسلامية إلى قوة تحمي ظهرها، وتشد أزرها، وتأخذ بيدها إلى النجاة، وتقهر أمامها الصعاب وتدفع عنها كيد الكائدين والقوة للمؤمن وسيلة، والإصلاح غاية وهدف.. فهي وسيلة لإصلاح ورعاية وتعهد قطيع من الغنم {إن خير من استأجرت القوي الأمين}(القصص : 26) قبل أن تكون أداة ووسيلة لإصلاح أمة. {وقال لهم نبيئهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يوت سعة من المال. قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يوتي ملكه من يشاء والله واسع عليم}(البقرة : 245).
وقوة الإيمان هي التي تصرف الإنسان عن المعاصي، فيهون عليه كيد الخلق أمام عقاب الخالق {قال رب السجن أحب إلي مما يدعوننيإليه}(يوسف :33).
- والقوة بالنسبة للأمة الإسلامية وسيلة وتحقيق الخلافة لله في الأرض غاية. ففي المجال العسكري نجد أن الله تعالى فرض على الأمة إيجاد وإعداد قوة لا تقهر ولا تغلب لإرهاب العدو لا لإستعباده واستغلاله {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل}(الأنفال : 61) بل ذهب إلى أبعد من ذلك فأوجب أن تكون قوة المؤمن على الضعف من قوة الكافر وأن المؤمنين إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يُسَوِّغ لهم الفرار منهم. {يا أيها النبيء حرض المومنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن تكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابين}(الأنفال : 66- 67).
- والقوة الاقتصادية هي الركن الحصين والأساس المتين فيتحقيق قوة عسكرية. وإذا كان في القصص القرآني عظة وعبرة لمن اعتبر فإن في قصة يوسف \ ما يوحي بوجوب التخطيط للمستقبل انطلاقا من المعطيات والإحصائيات الآنية لاستشراف المستقبل : فقد اقترح على الأمة الحل للأزمة المتوقعة في السنوات العجاف ما نص عليه القرآن بقوله تعالى : {قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تاكلون}(يوسف : 47) إنها سياسة التقشف التي يدعو إليها الاقتصاديون المعاصرون عند الجفاف والحرب والكوارث. وياليتها لحقت الأغنياء كما تلحق الفقراء -دائما- وبدون حرب ولا جفاف ولا كوارث. وتكون أدهى وأمر على هؤلاء عند حدوثها.
لـماذا كانت القوة مطلبا ووسلية شرعية؟
1- لتحقيق العزة ورفع الذلة والمسكنة عن الأمة الإسلامية :{ولله العزة ولرسوله وللمومنين}(المنافقون : 8).
2- لمنع الظلم وإشاعة الرحمة والتراحم : {محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}(الفتح : 29).
3- لتحقيق خيرية الأمة : {كنتم خير أمة أخرجت للناس}(آل عمران : 110) ومع تحقيق الخيرية تتحقق أهلية الإشهاد والشهادة على الناس : {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس}(البقرة : 143).
4- ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى. وبالتالي لتكون السيادة لشرع الله وحده على وجه الأرض : {فلا وربك لا يومنون حتى يُحَكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}(النساء : 65).
إذا تحقق هذا كان الفرد المؤمن عزيزاً كريما كبير النفس كبير الآمال لا يحني رأسه لمخلوق ولا يخضع لطغيان أو جبروت مهما كان وهذا هو المؤمن القوي.
- تجلى هذا في بلال بن رباح فصار بالإيمان ينظر إلى السماء عاليا في تيه وإعجاب وكبرياء على أمية بن خلف والحكم بن هشام والوليد بن المغيرة… فكان ينظر إليهم نظرالبصير إلى الأعمى.
- وحاصر خالد (الحيرة) فطلب من أبي بكر مدداً فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمر التيمي وقال : لا يُهزم جيش فيه مثله، وكان يقول : لصوت القعقاع في الجيش خيرٌ من ألف مقاتل!
- وكان عبد الله بن مسعود نحيفا نحيلا، فانكشفت ساقاه يوما -وهما دقيقتان هزيلتان-فضحك بعض الصحابة : فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : أتضحكون من دقة ساقيه؟! والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد.
إن الإيمان بالله هو الذي يمدنا بروح القوة، فالمؤمن الحق قوي وإن لم يكن له سلاح، غني وإن لم يكنز ذهبا ولا فضة، عزيز منيع وإن لم يكن له عصبة ولا أتباع، راسخ ثابت وإن اضطربت سفينة الحياة. فما أسعد المجتمع بالأقوياء الراسخين من أبنائه! وما أشقاه بالضعفاء الهازلين الذين لا يخيفون عدوا، ولا تقوم بهم نهضة، ولا ترتفع بهم راية، وقد كشف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أسباب ضعف الأمة مع كثرة عددها واتساع رقعتها فقال : >يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا : أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال : لا؛ بل أنتم كثير ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قيل : وما الوهن يا رسول الله؟ قال : حب الدنيا وكراهة الموت<.
من مصادر القوة عند المؤمن
1- الاستعانة بالله وترك العجز : >استعن بالله ولا تعجِزْ< :فالاستعانة بالله والتوكل عليه هي الدرع الحصين والسند المتين لاستشعار القوة، واستمداد العون والنصرة، لأن المؤمن يعتقد أن الله ناصر المـؤمنين وخاذل المبطلين : {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}(الطلاق : 3) وفي الحديث الشريف : >لو توكلتم على الله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا<.
فالتوكل على الله اعتماد عليه وتفويض الأمور له بعد الأخذ بالأسباب وإعداد العدة؛ فالمريض المتوكل على الله هو الذي يتناول الدواء ويرجو من الله الشفاء، والفلاح المتوكل هو الذي يبذر ويحرث ويرجو من الله إنضاج الزرع… وهكذا.
2- الإيمان بالقضاء والقدر :وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : >وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل : قدر الله وما شاء الله فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان<. المؤمن بالقضاء والقدر يعتقد أن ماأصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ومن ثم يعتقد أن رزقه مقسوم : {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا}(الزخرف : 32) وأن أجله محدود : {فإذا جاء آجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون}(الاعراف : 34) وهذه العقيدة تعطيه ثقة بالله لا حدود لها، وقوة لا تقهرها قوة بشر.
كان المخلفون من الاعراب، والمثبطون للعزائم منهم يُخَوِّفون من ترك أولاده نافراً في سبيل الله. فيعترض النافر قائلا : >علينا أن نطيعه تعالى كما أمرنا وعليه أن يرزقنا كما وعدنا< ويذهبون إلى المرأة فيخوفونها على رزقها وعيالها لتمنع زوجها من النفير، فتجيبهم في ثقة واطمئنان : >زوجي عرفته أكالا ولم أعرفه رزاقاً، ولئن ذهب الأكَّال فقد بقي الرزاق<.
وبهذه العقيدة انطلق المسلمون في أول نشأتهم إلى المماليك والأقطار، فادهشوا العقول، وحيروا الألباب فأذلوا القياصرة والكياسرة. وكان القائد والسائق إلى جميع ذلك هو الإيمان بالقضاء والقدر، وعلى قدر الإيمان تكون القوة. يقول عمر بن الخطاب : >والله لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح< ولما ذُهل المسلمون لوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجتهم الفاجعة عن وعيهم. رُوي أن عمر قال : >من قال إن محمدًا مات ضربته بسيفي هذا!!< وهناك وقف أبو بكر يؤذن في الناس بصوت جهير : >من كان يعبد محمدًا فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت… وتلا قوله تعالى : {وما محمد إلا رسولقد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا}(آل عمران : 144) فرحم الله أبا بكر وعمر ومن تبعهم بإحسان.
ما يستفاد من الحديث
1- أفاد الحديث أن القوة والضعف ترتب على مدى مجاهدة النفس “الجهاد الأكبر” ومدى المحافظة على الطاعات بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. وفي الحديث : >ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب< وكذا قوله صلى الله عليه وسلم >ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس<.
2- أفاد أن الخيرية ثابتة لكل مؤمن : ضعيفهم وقويِّهم، وإن تفاوتت نسبها ودرجاتها بتفاوت وارتفاع درجة حرارة الإيمان قال تعالى : {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولائك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى}(النساء : 95).
3- أفاد الأمر بوجوب الاستعانة بالله والتوكل عليه فإنه لا يذل من والاه ولا يعز من عاداه، وقد كان هذا دأب جميع الرسل والأولياء والصالحين ودَيْدَنَهُم في كل زمان ومكان : {وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ماآذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون}(إبراهيم : 12).
4- أفاد النهي عن العجز والكسل عند القدرة على القيام بما يفيد الإنسان في دينه ودنياه. فكما أن الإنسان لا يستغني عن الاستهلاك والإنفاق فهو بحاجة ماسة -مقابل هذا – إلى الإنتاج والكسب وإلا اختل التوازن وعاش بعض الأفراد العاجزين عالة على أسرهم، والعالة ضعف وهوان ووصمة عار في جبين القادر العاجز يقنع بالفتات والفضلات ما لم تصنع منه مجرما يسطو على الأموال والأنفس.
5- في الحديث إرشاد إلى الدواء عند وقوع المقدور، وهو الرضى والتسليم بقضاء الله وقدره، والإعراض عن الالتفات لما مضى فإن ذلك يؤول إلى الحسرة والأسف والندم. {ماأصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكمإلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكي لا تاسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}(الحديد : 21-22).
6-المؤمن لا يعيش بين “لو” و”ليت”. فمن عوامل القلق واليأس : التحسر على الماضي، والسخط على الحاضر والخوف من المستقبل، لذا ينصح الأطباء والمرشدون والمربون : أن ينسى الإنسان آلام نفسه ويعيش في واقع الناس فإن الماضي إن ولى لا يعود، ولقد قيل : >ما مضى فات، والمؤمل غائب، ولك الساعة التي أنت فيها<.
7- أفاد الحديث أن “لو” تفتح عمل الشيطان حيث يفتن المؤمن في دينه وإيمانه عند وقوع الحوادث، وكانت هذه شنشنة المنافقين الذين كانوا يجبنون أمام المواقف، ويعللون النفس بالأماني، ويتخلقون الأعذار : {لو كان لنا من الامر شيء ما قتلنا ها هنا} {لو أطاعونا ما قتلوا} {لوكان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك} {لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا}. وهلم جرا.
8- أفاد الحديث أن شعار المؤمن دائما : >قدر الله وما شاء الله فعل : الحمد لله على كل حال< وفي الإيمان بالقضاء والقدر ما يجنب الإنسان فقدان الصواب عند المصيبة فيرتد عن دينه (ويقول قولا يغضب الله عز وجل وتكون له عواقب انفعالية وخيمة. وكذا يجنبه التيه والإعجاب بالنفس عند الظفر والانتصار فينزع منزع قارون عندما قال : {إنما أوتيته على علم عندي} وكذا قال فرعون : {أليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي}. والمؤمن الحق هو الذي يحذو حذو سليمان في قوله : {هذا من فضل ربي ليبلوني آشكر ام اكفر}؟!
ذ. محمد بن شنوف