د. الوزاني برداعي
الخطبة الأولى
أما بعد: فكم هي عجيبة، كم هي مهلكة، كم هي خطيرة. وكم هي محيرة لما تتصف به من صعوبة الفهم والتعامل، كم هي خطيرة لأن الإنسان إذا كان جاهلا بها فقد حكم عليه بالخسارة والانهزام، كم هي خطيرة، لما لها من تأثير على حياة الإنسان ومصيره في الآخرة، كم هي خطيرة لأن نتيجة صلاحها وفسادها لا يؤثر على حياة الفرد ومصيره فحسب، بل قد يتعدى إلى التأثير على حياة ومصير الجماعة والأمة ، كم هي مهلكة لأنها منبع الصفات الذميمة والأمراض الكثيرة كالبخل أو الكبر أو الرياء أو حب الرياسة والسيطرة على الآخرين أو حب الانتصار في الباطل والعجب وحب الظهور والاعتزاز الشديد بالرأي الشخصي… كم هي محيرة فهي تتقلب من حال إلى حال ولا تستقر على حال، إنها النفس.
عباد الله : إن الإنسان إذا جهل نفسه، فسيدخل معركة مع أعدى أعدائه، على أرض المعركة وأرض المعركة هنا هي النفس، وعدوه هو الشيطان يعرف طبيعة تلك النفس، خبير بنقاط ضعفها عارف بمواطن نقصها وما يكفي لجعلها أرضا لكل شر، ومزرعة لكل قبيح، فكيف يكون حال من دخل معركة مع الشيطان وهو جاهل بنفسه؟ لا شك أنه خاسر لا محالة.
لقد اتفق علماء السلف على أن النفس قاطع وحاجز بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يستطيع العبد أن يصل إلى مرضاة الله عز وجل والنجاة يوم القيامة، إلا بعد تهذيب نفسه والسيطرة عليها، قال تعالى: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها} فكيف هي أحوال الناس تجاه أنفسهم ؟
1- من الناس صنف يجهلون نفوسهم ولا يهتمون بمعرفتها ولا بإصلاحها لا تطهيرها على الرغم مما للنفس من خطورة وأهمية كبيرة.
2-ومن الناس من يعرف في نفسه الصفات الذميمة والأمراض الكثيرة، فيعتز بها ويعتبر ذلك مكسبا عظيما وربحا باهراً.
3- والصنف الثالث من الناس لا يريد أن يعترف أنه مصاب بالصفات الذميمة، ولا يملك قوة لمواجهة نفسه فلا يستطيع حتى أن يفكر في علاجها،
يجب أن نعيد النظر في اهتمامنا بتزكية النفس لنقضي على تلك المظاهر الهابطة والصفات الناقصة، المخالفة لهذه الشريعة.
إن سبب الهزيمة يكون من الأنفس: أصاب المسلمين في غزوة أحد الشهيرة ما أصابهم من القرح الشديد وتساءل بعض الصحابة رضوان الله عليهم ما سبب الهزيمة ألسنا نقاتل في سبيل الله ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وعدنا الله تعالى بالنصر؟ فأنزل الله عز وجل قوله تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد اصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير}.
وإن التغيير يبدأ من الأنفس: قال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
هذه بعض خطوات إصلاح وتزكية النفس.
أما الخطوة الأولى لإصلاح النفس وتزكيتها: هي معرفة موقع النفس ودرجتها، فقد وصف الله سبحانه تعالى النفس في القرآن الكريم فجعل لها ثلاث درجات.
الأولى أو أدنى وأخس درجة هي النفس الأمارة، وهي التي تأمر صاحبها بما تهواه من شهوة ونزعة وظلم أو حقد أو فخر إلى آخره، فإن أطاعها قادته لكل قبيح ومكروه قال تعالى: {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} فأخبر سبحانه وتعالى عن تلك النفس أنها أمارة وليست آمرة لكثرة ما تأمر بالسوء
أما الصفة الثانية أو الدرجة التي يمكن للنفس أن تعلو إليها فهي النفس اللوامة، وهي النفس التي تندم على ما فات وتلوم عليه، وهذه نفس رجل لا تثبت على حال فهي كثيرة التقلب والتلون، فتذكر مرة وتغفل مرة، تقاوم الصفات الخبيثة مرة، وتنقاد لها مرة، ترضي شهواتها تارة، وتوقفها عند الحد الشرعي تارة.
أما الصفة الثالثة أو أعلى مرتبة يمكن أن تصل إليها نفسك وترقى هي النفس المطمئنة، وهي تلك النفس التي سكنت إلى الله تعالى واطمأنت بذكره وأنابت إليه وأطاعت أمره، كرهت كل معصية وأحبت كل طاعة وتخلصت من الصفات الخبيثة من الشح والأنانية واللؤم والخيانة واستقرت على ذلك فهي مطمئنة، وهذه النفس هي التي يقال لها عند الوفاة {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} قال أهل العلم هذه هي أحوال النفس التي تتردد عليها والنفس تكون تارة أمارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا.
الخطوة الأولى لإصلاح النفس وتزكيتها هي معرفة موقع النفس ودرجتها
الخطوة الثانية: في إصلاح نفسك: هي الاعتراف بالعيوب والتعرف عليها، إن اعتراف الإنسان أن به عيوبا خطوة هامة في طريق الإصلاح لأن الإعراض عن معرفة العيوب هو ضعف ونقص وفقدان للشجاعة في مواجهة النفس، بل هي إحدى صفات المعرضين عن رسل الله عز وجل حيث قال تعالى: {ولكن لا تحبون الناصحين }،قال محمد بن كعب القرطي: إذا أراد الله بعبد خيرا جعل فيه ثلاث خصال: فقها في الدين، وزهادة في الدنيا، وبصرا بعيوبه.
الخطبة الثانية
عباد الله : من أهم الوسائل التي تعين على معرفة عيوب النفس.
1- العلم: فنظرك في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يوقفك على أمراض النفس ويشخصها لك ويبين لك الصفات الذميمة وكيف تتجنبها وتعالجها، هذا فضلا عن ذكر الصفات الطيبة للنفس للتحلي بها.
2- الأخ الناصح الشفيق: الذي يبصرك بعيوبك ويرى أن ذلك واجبا عليه عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : “الدين النصيحة”قال ميمون بن مهران: قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكرهه.
كان سفيان الثوري يقول: أدركنا الناس وهم يحبون من قال لأحدهم: اتق الله تعالى وقد صاروا اليوم يتكدرون من ذلك.
3- معرفة ما تنتقد من الناس من المكاسب والمعايب، واجتهادك ألا تقع فيها.
وفي الختام ينبغي لمن يرجو زكاة نفسه وإصلاحها أن يستعين بالله عز وجل دائما ويدعوه فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: (الحمد لله نستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من سيئات أنفسنا) وكان صلى الله عليه وسلم يسأل الله عز وجل أن يعيذه من جميع الصفات الذميمة، فكان يقول في أذكار الصباح والمساء: (اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان )
اللَّهم أنت خلقت أنفسنا وأنت تتوفاها؛ فزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها بما تحفظ به أنفس الصالحين، وإن أمَتَّها فاغفر لها وارحمها وأنت خير الراحمين.
والحمد لله رب العالمين.