إن مدار الأمان في سفينة المجتمع ولسفينة المجتمع، على تحصينها من شرور الغواية وتطهيرها من سموم الغاوين، وتحذير أهلها من خداعهم ومكايدهم، وجعلها موئلا للهداة والمصلحين، وأول ما ينبغي التسلح به في هذا المقام، معرفة أن أصل الغواية وقائد الغواة على طريق الشر والضلال هو الشيطان الرجيم، الذي صرح متبجحا أمام رب العزة والجلال، بكونه قد تحمل كبر نشره في الأرض إلى يوم يبعثون، فيما ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى على لسانه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الارْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُم أَجْمَعِينَ}(الحجر : 39). والغواية أو الإغواء هو الإضلال وتزيين الكفر والفساد للناس بشتى الوسائل والأسباب، التي تجتمع في مضمونها ومفعولها حول صورة الاستدراج ثم الإيقاع بالمراد إغواؤهم، وهم جملة من على هذه الأرض من الناس، ويؤكد هذه الصورة ما أورده السمين الحلبي في “عمدة الحفاظ” في شرح معنى أحد مشتقات كلمة “غوى”، وهو “مُغَوَّاة” (بضم الميم وفتح الغين وتشديد الواو) بأنها:” حفرة كالزَّبْية (بضم الزاي المشددة وتسكين الباء) تحفر ويجعل فيها جدي ونحوه، فيراه الذئب فيسقط ليأكله. ومنه قيل لكل مهلكة مغواة، قال: أراد أن تكون مهلكة كإهلاك تلك المغواة للذئب.”
ومما ينبغي معرفته والوعي به في هذا المقام، أن لا حجة للغاوين على الغواة يوم العرض على الله عز وجل، فهؤلاء يتبرؤون من أولئك في ذلك اليوم العصيب، يقول سبحانه وتعالى: {قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون}(القصص: 63).
إننا إذ نتأمل الوضع الإنساني الذي يمثله المجتمع الذي نعيش فيه، نجده محفوفا بالمغويات أي بالزوابي التي يقف على كل زُبْية منها غَوِيٌُّ َّمن الغواة مبين، يوظف كل ما في جعبته من فسق وضلال، لإيقاع من هم في نظره من فصيلة الذئاب في قعرها فيهلكوا. وتتعدد ألوان الحفر أو الزوابي، وتتنوع أشكالها الهندسية، بحسب ما يراه الغواة كفيلا بامتلاك قوة الإغراء وسلب الإرادات، وقبل ذلك بحسب خصوصية المجال الأصلي الذي ترتبط به كل زبية من الزوابي، أدبا كان أو فنا أو ثقافة أو رياضة، أو إعلاما، أو سياسة، أو اقتصادا وتدبيرا، ويقف على كل مجال مشرفون متخصصون في الإغواء، يتقنون فنيات التخييل وأساليب التزيين لكل ما هو شيطاني، تحت ذرائع تلبس لبوس الحداثة والتطور ومنطق العصر ولغة التثوير ونبذ الجمود.
ومن خصائص عملية الغواية أو الإغواء، أن من يتولون كبرها ينفذون إلى ضحاياهم – من الغاوين الساقطين في شراك ما ينصبونه من زوابي- من خلال مداخل نفسية بالغة الحساسية تدخل في صميم رؤية الحياة وما يرتبط بها من أهداف، من قبيل الشهرة والنجومية، أو القوة والغنى والسلطان. وليست جناية الغواة، أفرادا كانوا أو مؤسسات، نابعة من تلك المداخل في حد ذاتها، ولكن مما يضفى عليها من طابع الزيف الذي يحرفها عن المسار الصحيح الذي ينبغي لها أن تلزمه، وهو مسار محكوم في عرف الدين بقيم ضابطة، ومن ثم فهو محفوف بالمكاره التي تستثقلها الإرادات المهزوزة النفوس الهزيلة.
إن سفينة المجتمع وهي تبحر في خضم أمواج الغواية وتياراتها العاتية، لا يمكن أن تجري إلا وهي واهنة القوى مخنوقة الأنفاس، توشك أن تهوي في كل لحظة من لحظات الإبحار، في هاوية ليس لها قرار، إنها أشبه في ذلك بالسفينة المصنوعة من أخشاب، التي تتحرك في عرض المحيط، وهي محاصرة من تحتها ببقع الزيت الثقيلة السوداء، ومن فوقها بكتل كثيفة من الضباب.
إن سفينة مجتمعنا تعاني من إرهاق كبير، ومن قابلية كبيرة للانخراق، وللتفكك والاحتراق، بسبب الزيوت المسمومة المخلوطة بوقود السير في محركاتها، ومرد ذلك إلى تناسل الغاوين على ظهرها، وتسلل مزيد من الغواة إلى غرفة الإبحار.
إن أمانات ثقيلة ومهمات جسيمة ملقاة على كواهل نجباء سفينة المجتمع، وهي تفرض عليهم أن يتصدوا بكل ما أوتوا من صبر وحكمة ودراية بمداخل الإصلاح ووسائل نزع الألغام، وإزاحة الزيوت الفاسدة، والأورام الخبيثة، للأخطار المحدقة من كتائب الغواية المدججة بمخططات المكر والفساد، لتعود للسفينة قوتها وهيبتها وبهاؤها، وتحل محل منتنات الزوابي، خضر الروابي. وصدق الله القائل: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون}.