إن الذي يقرأ كتاب الله بتمعّن، في محاولة للإلمام بطبيعة موقفه من العلم، يجد نفسه أمام حشد من الآيات البيّنات ممتدة وفق أبعاد أربعة توازي الظاهرة العلمية في اتجاهاتها كافة. يتناول أوّلها مسائل تتعلق بحقيقة العلم وآفاقه وأهدافه، فيما يعرف بفلسفة العلم ونظرية المعرفة. ويتناول ثانيها منهج الكشف عن الحقائق العلمية المختلفة، ويعرض ثالثها لمجموعة من السنن والقوانين في مجالات العلم العديدة، وخاصة الطبيعة والجغرافيا وعلم الحياة، فيما يسمى بالعلوم المحضة أوالصرفة. ويدعو رابعها إلى استخدام هذه السنن والقوانين التي كشف عنها منهج تجريبي في البحث، من أجل ترقية الحياة وتنميتها على طريق خلافة الإنسان لإعمار العالم فيما يعرف بالعلوم التطبيقية (التقنية).
وما من شك في أن هناك ارتباطاً وثيقاً ومحكماً بين هذه الأبعاد، يقود أحدها إلى الآخر. فالفلسفة تحلل أهداف العلم، والمنهج يقدّم طريقة عمل للكشف عن الحقائق: السنن والنواميس التي تحكم الكون والعالم والحياة وتحمي صيرورتها ذات النظام المحكم. وهذه السنن والنواميس تمنح الإنسان ـ بدورها ـ المعادلات التي تمكنه من الدخول إلى صميم التركيب المدهش هذا لبنية الكون والعالم والحياة من أجل اعتماد تلك السنن والنواميس لتنفيذ قدر من التطبيقات العلمية تمضي بالعمران البشري قدماً صوب الأحسن والأرقى، وتتيح للإنسان أن يتحرر من شدّ الضرورات لكي يكون أكثر قدرة على رفع رأسه ومحاورة السماء وتلبية حاجاته الروحية التي بها يتميز الإنسان عن سائر الخلائق ويتمكن من تنفيذ مقتضيات خلافته العمرانية في العالم.
صحيح أن القرآن الكريم ما جاء لكي يكون كتاباً علمياً، كما هو معروف، وما جاء لكي يكون كتاب جغرافيا أو تاريخ أو أي حقل من حقول المعرفة المتنوعة، وصحيح أن إلحاح بعض الباحثين المعاصرين على تحميل آيات الله معاني وتفاسير (علمية) لم تقصد إليها البتة، قد دفع بعضهم الآخر، وبردّ فعل يتميّز بالالحاح نفسه، إلى نفي أن تكون للقرآن أية صلة بأية حقيقة علمية، فإن الأمر الذي لا ريب فيه هو أن كتاب الله عالج مسألة العلم بطريقة مركبة تمتد إلى جميع الأبعاد بما لا يقبل لجاجة أو إنكاراً. وإنه لأمر بديهي أن تتعانق معطيات القرآن ومعطيات العلم (بمفهومه الشامل وخارج نطاق النسبيات والمتغيرات) وتتوازيان لا أن تتضادا وتقوم بينهما الحواجز والجدران. ذلك أن مصدر العطاء واحد، وهو الله سبحانه خالق السنن والنواميس ومنزل القرآن.. موجد الكون والعالم وباعث الحياة والإنسان. ليس هذا فحسب، بل إن الإنسان باعتباره معنيّاً بإيجاد السنن ونزول القرآن، الإنسان باعتباره المستخلف في هذا العالم والمستعمر فيه، كما تؤكد المعطيات القرآنية، يقود بالضرورة إلى هذا اللقاء الأكيد بين كتاب الله وسننه في الوجود، إذ كيف يستطيع الإنسان أن يؤدي دوره في الأرض، في إطار تعاليم القرآن وشرائعه، إن لم يتحرك -ابتداء- لفهم هذا العالم والكشف عن سننه وطاقاته وكنوزه؟ وثمة ما يجب أن نشير إليه هنا وهو أن العلم الحديث لم يعد يرفض الحقيقة الدينية أو يشكك فيها، كما حدث في القرون السابقة وهو يعترف بأنه ليست لديه الكلمة النهائية في موضوع هو أكبر من حجمه بكثير.. ثم يعود لكي يؤكد ـ بإمكاناته المحدودة ـ أن الحياة البشرية لا تستحق أن تعاش إذا نحن جرّدناها من بعدها الكبير الذي يتجاوز حدود المادة والحركة.. يعود العلم لكي يتعانق مع الدين ويتوّظف لديه.. ذلك هو الانقلاب الكبير الذي شهدته فلسفة العلم المتمخضة عن الكشوف الأخيرة في مجال البحث العلمي، وبخاصة الطبيعة والذرة وطريقة عمل الدماغ البشري. وهناك مسألة أخرى لا تقل خطورة وهي أن الكشوفات العلمية الأخيرة حطمت جدار المادة، وأطلت ـ وهي تتوغل في صميم الذرة ـ على عالم الروح الكامن في بنية العالم وتركيب الأشياء. إن العلم يلتقي مع الدين مرة أخرى، والحقائق كثيرة ولن يتسّع لها مجال كهذا بطبيعة الحال.
أ. د. عماد الدين خليل