بعد رحلة طويلة وشاقة في التاريخ يعود العلم، بعد أن نما وشبّ عن الطوق وبلغ رشـده، لكي يلتقي بالدين، واستبعدت الفكرة التي ترفض قبول كل ما لا يخضع للفحص والتحليل.. لأن الأجسام الفيزيائية نفسها أبت أن تخضع للفحص والتحليل.. كل ما قدمته لنا هو ملامحها الخارجية، أما في الباطن، على مستوى الحقائق النهائية للتركيب والماهية.. فلا جواب. وإذا كان ذلك كذلك، إذا كنا نحكم على الأجسام من خلال تأثيراتها ومؤشراتها، فإن هنالك في حياتنا البشرية ظواهر لا يحصيها العدّ تؤثر في صميم هذه الحياة وتمدّ مؤشراتها إلى سائر الاتجاهات، كالدين والجمال والأخلاق.. الخ.. ومن ثم فإن نكرانها لمجرد أننا لم نعرف عن ماهيتها شيئاً، لم نعرف سوى تأثيراتها ومؤشراتها، يقودنا بالضرورة إلى إلغاء العلم نفسه، لأنه لم يمنحنا سوى كشف عن التأثيرات والمؤشرات، أما الماهيات فلا جواب. ومن ثم كان لذلك الكشف الخطير على مستوى العلم، والذي بلور “أدينغتون” ملامحه النهائية تأثير إيجابي هام على مستوى الحياة البشرية.
إنها إرادة الله سبحانه التي ركزت الإيمان به وحده في فطرة بني آدم، تعود بهم ثانية إلى ساحة الإيمان.. تعود بهم من ألف طريق.. وها هو ذا حشد كبير من العلماء يرجعون إلى الله والروح والجمال والحق والخير.. كحقائق موضوعية مستقلة عن ذواتنا.. يرجعون من خلال منهج علمهم نفسه ومن الواضح ـ كما يقول سوليفان في “حدود العلم” ـ “أن حقيقة كون العلم مقصوراً على معرفة البنى، هي حقيقة ذات أهمية إنسانية عظيمة لأنها تعني أن مشكلة طبيعة الحقيقة لم يبتّ فيها بعد. ولم يعد يطلب إلينا الآن أن نعتقد بعدم وجود مقابل موضوعي لاستجابتنا للجمال، أو شعورنا الوجداني بالانجذاب إلى الله. إن مثل هذه الأمور يمكن أن تكون مفاتيح لطبيعة الحقيقة، وقد اعتبرت كذلك في كثير من الأحيان. وهكذا فإن تجاربنا المختلفة قد أصبحت كما كانت على قدم أكثر تساوياً. إن تطلعاتنا الدينية وحسّنا الجمالي ليسا بالضرورة ظواهر وهمية كما جرى الافتراض في السابق. وإن من حق الرؤى الباطنية أيضاً أن يكون لها مكان في هذا العالم العلمي الجديد”.
وهكذا فإن تطلعاتنا الدينية وحسّنا الجمالي -إذن- ليسا بالضرورة ظواهر وهمية كما جرى الافتراض في السابق، يوم أن اندفع العلم المراهق والنظريات الاجتماعية والنفسية التي بنيت عليه، يضرب هذه التطلعات ويسقط تلك الأحاسيس، رادّاً الحياة البشرية إلى مجموعة ميكانيكية محدّدة صارمة من الأفعال وردود الأفعال.. مسطحاً هذه الحياة الكثيفة المعقدة المتشابكة، مدمراً امتداداتها المتقاطعة، جاعلاً إياها تتحرك على خط واحد وفق امتداد واحـد، وبأقل قدر من تبادل التأثير بين الذات والموضوع وأشدّه انحساراً.
والإنسان، ذلك المجهول “إذا استخدمنا عبارة الكسيس كاريل” أصبح ظاهرة مادية أخضعت للتحليل والاختبار، من أجل الوصول بالقسر والإكراه، إلى تفسير نهائي لسلوكه.. فكان يندفع حيناً بتأثير دافعه الجنسي وكان يتحرك حيناً آخر على هدى ضرورة عمياء للبقاء والارتقاء، وكان يتطور حيناً آخر، مسلوب الإرادة، بضغط التبدل في وسائل الإنتاج، وكان يمارس حياته حيناً رابعاً من خلال عقل جمعي لا يأبه لحياة الأفراد.
أنماط مختلفة من التفاسير أريد منها الوصول إلى المستحيل، والمستحيل هو فهم الإنسان وإدراك طبيعة علاقته بالمادة.. وكان الاعتقاد السائد يومها أن المادة قد حسم أمرها وأن ما تبقى هو الإنسان!
لقد انتهى عصر التسطيح والإحالة الميكانيكية أو البايولوجية لسلوكية الإنسان، ما دام قد تبيّن أن الأجسام المادية نفسها فقدت تسطحها وقادت إلى دهاليز وأعماق وسراديب ضيعّت العلماء بعد ثلاثة أو أربعة قرون من البحث في المادة دون أن يدروا أنهم لا يزالون يتحركون على السطح!