الحرية نعمة كبيرة منحها الله تعالى للإنسان لما يترتب عنها من إعمار الكون وتسخيره لصالح الإنسان، ولما يترتب عنها من التكريم اللائق بالإنسان، فلا يتعرض لأي نوع من أنواع القهر والإكراه والإذلال والمضاياقات المادية والمعنوية.
ومع أن الله تعالى قادر على أن يجعل الناس أمة واحدة طبيعة وفكراً وعبادة ودينا، ولكنه سبحانه أنعم على الإنسان بنعمة الحرية ليعيش منازع شتى، ورغباتٍ متباينة، إذْ بتلك الحرية يتحقق الابتلاءُ الذي أسِّسَ عليه خلقُ الكون والإنسان {إنّا جَعَلْنا ما على الأرضِ زِينَةً لَها لنَبْلُوهُمُ أيُّهُم أحْسَنُ عملا}(الكهف) {إنّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُطْفَةٍ أمْشَاجٍ نَبْتَلِيه فجَعَلْناه سَمِيعاً بصِيراَ}(الإنسان) {وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لجَعَلكُمْ أُمّةً واحِدَةً ولكِن ليَبْلُوَكُم فيما آتَاكُم}(المائدة : 50)
وبناءً على هذه السّنّة الربانية نجدُ أن الله تعالى يرسل رسله ليُبَيِّنُوا للناس طريق الخير وطريق الشر ومآلهما بدون أن يُكْرِهوهم، ليتحمَّلوا بأنفسهم مسؤولية اختيارهم بما يتمتعون به من حُرّية.
ولكن الإنسان القاصر فهماًوعقلا وإدراكاً لا يفقه هذه الحقيقة، ولذلك نجده بمجرد ما يمتلك شيئا بسيطاً من النفوذ حتى تراه يقيّد الحريات، ويكمم الأفواه، ويصادر الفكر ليجعل مَن تَحْت يدِهِ جماعةً من المهلّلين والمُصفّقين، يريدهم أن يُلغُوا عُقُولهم وشخصياتهم ليكون دَوْرُهم التسبيح بحمد الزعيم الأوحد، الذي عقلُه هو العقل، وفكرُه هو الفكر، وتخطيطُه هو التخطيط، ورأيُه هو الرأي، ويبُثَّ فيهم الرُّعب إلى درجة أن تجد القطيعَ يخاف من الزعيم سرّاً وإعلانا تشبيهاً له برب الأرباب، فلا يخطُر بباله أن يتهم الزعيم بالخطإ حتى في قرارة نفسه خوفاً من أن تكون جُدْرَانُ قلبه ملغومةً بمرَاصِد التجسس. فنتج عن هذا الجمود الجامد، والركود الراكد، والتخلف المتخلف، في أمة حملت رسالة التحرُّر للعالم كله، فاستفاد منها ورجعتْ هي إلى الوراء، بل إلى وراء الوراء، بفضل الزعماء الأفذاذ الذين تألَّهوا وتجبَّرُوا على شعوبهم، وهانوا ولانوا وركعوا لسادتهم الذين يرفسونهم رفسا، ويصفعونهم صفعا، فلا يزيدون على أن يقولوا لهم : “ربَّنا ولك الحمد”، ولو قالوها لله لكرّمهم ورفع من شأنهم وأعزّهم دُنْىا وأخرى -لو آمنوا بها- وعرفوا قيمتها.
هذه هي مصيبة شعوبنا التي ابتُليت بالخنوع الخانع لزعماء لم يعرفوا قدْر أنفسهم، ولا قدْر شعوبهم، ولا قدْر الحياة المكرّمة، ولا قدْر التاريخ الذي يسوّد صحائفهم، فهم مسجونون في قفص الهوى والذل المضروب عليهم.
فكم نقرأ عن شعوب كانت أبشعَ منا وأحطّ وأذل، ولكن قيض الله تعالى لها مفكرين أحراراً، وعقلاء راشدين، وهِمَماً عالية فانتفَضَتْ انتفاضةً المُصِرّ على الحياة الكريمة أو الموت الكريم، فأصبح لها شأن كبير تحت ضَوْء الشمس، تتكلم فيُسمع لها، وتأمرُ فيستجاب لها، وبَقِينا نحن كالبعير الأجرب المُخَلَّف في القطيع المريض.
نقطة البداية في إصلاح أحوالنا أن نمتلك الحرية التي أعطاها الله لنا لنستطيع أن نقول بملء أفواهنا :
- بأيّ حقِّ يأخُذ بعض كبارِ قومنا عشرات الملايين شهريّاً ومُعظم أفراد الشعب يبيتون على الطوى؟! على حينٍ لدَيْنا في تراثنا العديد من نماذج الحكام المتعففين على رأسهم عمر بن الخطاب الذي قال : “إنِّي أنْزَلْتُ نفْسي منْ مالِ الله منْزِلة مالِ اليَتِيم إن اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْففْتُ، وإنْ افْتَقرت أكلْتُ بالمَعْرُوفِ، فإنْ أيْسَرْتُ قَضَيْتُ”.
-بأي حق يُهجَر القرآن فلا يُعلم في المدارس والثانويات والجامعات ونحن كما يقال : شعوب إسلامية؟! من المسؤول عن التهميش للقرآن في الشعوب الإسلامية؟
-بأي حق يُسْمح للمحرمات : زنى، وخمراً، ومخدراتٍ، وسرقة لأموال الدولة، بالانتشار، بدون حسيب ولا رقيب؟؟
- بأي حق لا يُسمح للشعوب بأن تجأر بالتعبير عما تُحِسُّ به من ظُلْم واستبداد وإذلال؟!
-بأي حق تكون أمة {اقرأ} تتصَدَّرُ الأمم في الجهل والأمية والتأخر؟!
-بأي حق تُقتل بعض الشعوب الإسلامية وتهدَّم دورُها ويقتل صبيانها ونساؤها وشيوخها، وكبار قومنا لا يحركون ساكنا، ولا يسمحون للشعوب بالاستنكار؟!
-بأي حق يُسمَحُ للملحدين بالطعن في الدين والتشويه للمسلمين، ولا يسمح للغيورين على الحق بالجهر بتغيير المناكر والمفاسد المخربة للأعراض والاقتصاد والاجتماع؟!
أسئلة لا حصر لها لو توفرت الحرية لطرحها في المؤسسات والندوات ومراكز القرار لاستطاعت الشعوب أن تقفز للأمام في ظرف وجيز، ولا ستطاع المسؤولون -لو اتسع صدرهم- أن يتلاحموا مع هموم الشعوب، فيكوِّنوا كتلة واحدة تسير لهدف واحد هو : تأهيل الشعوب الإسلامية لتكون في الصدارة : عِلما، وعدلا، وأخلاقاً، وكرامة، وبذلك نستطيع تجديد إخراج الأمة الخيّرة المنقذة للإنسان الشقي، فنستحق نصر الله تعالى على أهوائنا وأعدائنا {إنْ تَنْصُروا الله ينْصُرْكم ويُثَبِّت أقْدَامَكُم}.