تحدثنا في الخطبة الماضية عن ظاهرة الرشوة بين التحريم الشرعي والانحراف الأخلاقي. ووضحنا موقف الإسلام من الرشوة وحكمه فيها وعقوبة من يتعاطى لها مع ذكر مجموعة من الإحصائيات الرقمية المتعلقة بمستوى انتشار هذه الظاهرة الخطيرة، وفي هذه الخطبة سوف نتحدث إن شاء الله عن بعض من أسباب انتشار هذه الآفة الخطيرة آفة الرشوة للوعي بها والحرص على تجنبها.
عباد الله :
إن موضوع الرشوة يكثر الكلام فيه ويطول شرحه وتفصيله. لأنه موضوع يتعلق بظاهرة عالمية وإن كان انتشارها يتفاوت من بلد إلى بلد ومن مكان إلى آخر ولأن أساليب التعاطي لهذه الظاهرة متنوعة ولها ألوان وصور، وليس المال هو الأسلوب الوحيد المستعمل في الرشوة. لذلك يجب علينا قبل التطرق لسبل علاج هذه الظاهرة أن نقف على أسباب انتشارها، لأنه كما يقال : “إذا عرف السبب بطل العجب”. وإن أسباب انتشار ظاهرة الرشوة متعددة ومتنوعة منها ما يتعلق بالسياسة والتدبير ومنها ما يتعلق بالإدارة، ومنها ما يتعلق بالاقتصاد والاجتماع والتربية.
فما هي أسباب انتشار ظاهرة الرشوة؟
أولا : الأسباب المتعلقة بالسياسة والتدبير :
لا شك أن داء الرشوة داء خطير منتشر في كثير من الأنظمة الفاسدة، في العالم كما هو معلوم ومنشور في كثير من الدراسات ومواقع الأخبار الإلكترونية، فهي لا تقتصر على الدول النامية والمتخلفة، وإنما هي منتشرة كذلك في المجتمعات المتمدنة ولا أقول المتقدمة، لأن التقدم شيء والتمدن شيء آخر، وإن كان انتشارها في البلدان المتمدنة بنسب أقل، ومن هنا يمكن القول : بأنه كلما قوي التمدن والتقدم قل الانحراف وكلما عظم التخلف والجهل كلما كثر الانحراف بكل ألوانه وصوره. ولذلك فإن ظاهرة الرشوة وهي سلوك انحرافي تكون بنسب أعلى في الأنظمة التي لا تتوفر على مساحة كبيرة من الشورى والديمقراطية ولا من الشفافية والمساءلة، ولا تتاح فيها حرية التعبير والرأي والرقابة والقيام بالواجب في تحمل المسؤولية بحيث لا تخضع تصرفات كل من حامت حوله الشكوك في من تقلدوا مناصب المسؤولية للتفتيش والمساءلة والنقد والتوجيه، خاصة في ظل عدم وجود أجهزة إعلامية حرة لها مصداقية كافية وقادرة على كشف الحقائق وإظهار مواطن الفساد وتعريتها.
ومما يساعد كذلك على انتشار الرشوة ضعف السلطة القضائية، بحيث يجب أن يكون لها الكلمة الفصل والقوة الرادعة، وأن تكون لها الاستقلالية التامة الكاملة، الأمر الذي يؤدي إلى تطبيق الشرع والقانون على الجميع، وألا يبقى هناك أشخاص فوق القانون، فالكل يجب أن يشعر بالمساواة والعدالة والإنصاف.
ثانيا : الأسباب الإدارية.
أيها المسلمون : لا شك أن الإدارة النظيفة النقية الطاهرة الأمينة تقوم بدور كبير في محاربة الرشوة ومكافحتها، وتعد هذه الإدارة مسؤولة مسؤولية تامة عن مكافحتها، إذا هي قامت بواجبها خير قيام، وانضبطت للقوانين والشرائع التي تضبطها، وإما إذا عطلت ذلك وتجاوزت القوانين والشرائع فإنه ينتج عن ذلك انحراف وضلال وزيغ يصعب التحكم فيه بسهولة. ومن الأسباب الإدارية التي تؤدي إلى تفشي الرشوة ما يلي :
1- ضعف الإجراءات الإدارية وعدم تطويرها ومواكبة ما استجد من جديد وحديث، وكذا وجود الروتين والزبونية والبيروقراطية والمحسوبية، والتدخلات والوسائط المشبوهة.
2- غموض مجموعة من القوانين والأنظمة وتناقض الكثير من التشريعات وكثرة التأويلات والتفسيرات.
3- ضعف دور الرقابة وعدم فعاليتها وافتقارها إلى المزيد من الكوادر المؤهلة والطاقات العلمية الكفأة المدربة. والمحصنة بروح النزاهة واستشعار الأمانة والمسؤولية والخوف من الجليل.
4- عدم وضع الشخص المسؤول المناسب في المكان المناسب، ومن ثم الوصول إلى المناصب والفوز بالامتيازات عن طريق أساليب غير مشروعة، ومنها الرشوة في بعض الأحيان، والذي يدفع الرشوة من أجل الوصول إلى هدف معين، فإنه عندما يصل إلى هدفه سوف يبدأ بالتفكير في استرجاع ما دفعه، لأن الذي وصل إلى هدف ما عن طريق الحرام فإنه لا محالة يستمر في تحقيق بقية أهدافه بالحرام، وبعد ذلك تدفعه متعة المال والجشع إلى طلب المزيد، الأمر الذي يصبح جزءاً من حياته في العمل والتفكير في إيجاد وابتكار أساليب وحيل للسطو على أموال الناس بالباطل، ومثل هذا النوع من التفكير هو الذي ينمي لدى الكثير من الناس الإصرار على تعاطي الرشوة كسلوك منحرف، وبالتالي يؤدي إلى الفساد في المجتمع برمته، نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من الوقوع في الحرام، وأن يرزقنا وإياكم الحلال الطيب آمين.
الخطبة الثانية :عباد الله : ما زلنا مع الحديث عن أسباب انتشار ظاهرة الرشوة، هذه الآفة المرذولة والخطيرة التي إذا تفشت في مجتمع من المجتمعات، فلا شك أنه مجتمع فاسد، محكوم عليه بالعواقب الوخيمة والهلاك المحقق.
الأسباب الاقتصادية والاجتماعية
لعل من الأسباب التي تسهم في هذه العواقب الوخيمة والنتيجة السيئة ما يتعلق بالجانب الاقتصادي والاجتماعي.
أولا : الأسباب الاقتصادية :
فلنقف أيها المسلمون على أهم الأسباب الاقتصادية أولا : ولأن العامل الاقتصادي من أهم العوامل التي تؤدي إلى انتشار الرشوة، وهذا الأمر يرجع إلى أسباب منها :
1- انخفاض مستوى المعيشة ومستوى الدخل الفردي وتدني الأجور في مقابل الارتفاع المستمر في الأسعار، أسعار السكن والمواد الغذائية والمنزلية وتكاليف الحياة بصفة عامة، فالموظف الضعيف الذي يتقاضى أجرا هزيلا ومحدودا على سبيل المثال يكون عادة، ضحية الوقوع في التعاطي للرشوة بسبب الحاجة الماسة للنقود، فهو مدفوع في أغلب الأحيان إلى ارتكاب الجريمة رغبة منه في قضاء حاجته المادية التي لا يقدر على أدائها بسبب تكاليف المعيشة وغلاء الأسعار، نظرا لضعف القوة الشرائية لمرتب الموظف الذي لم يعد يكفي لسد هذه الحاجات.
2- والسبب الثاني : سوء توزيع الدخل القومي، الشيء الذي يجعل الأموال تتمركز لدى ثلة قليلة من الأشخاص الأثرياء، وهذا الأمر يؤدي إلى تكريس الفارق الاجتماعي وزيادة مستوى الانقسام الطبقي، حيث تصبح الفئة الغنية أكثر غنى والفئة الفقيرة أكثر فقرا. ومن ثم يتولد لدى هذه الفئة الأخيرة من الناس سواء كانت من الموظفين أو من صغار التجار والمهنيين والحرفيين والمياومين، يتولد لدى هؤلاء جميعا شعور بالحقد والحسد والبغض والكراهية، ويعبرون عن هذا الشعور من خلال أخذ الرشاوى من أصحاب رؤوس الأموال، ولا شك أن هذه النتيجة نتيجة مأساوية غريبة عن مجتمع يؤمن بدين قوامه المحبة والتعاون والتآخي والتكافل، والعدالة الاجتماعية، فأين نحن أيها المسلمون من هذه القيم النبيلة؟؟ أين نحن من الإخلاص والصدق والخوف من الله والوفاء بعهده والحياء منه؟.
ثانيا : الأسباب الاجتماعية والتربوية :
أيها المسلمون : الرشوة تعتبر سلوكا اجتماعيا غير سوي قد يلجأ إليه الفرد أو الجماعة كوسيلة لتحقيق غايات لا يستطيع الوصول إليها بالوسائل المشروعة، أو بالطرق التنافسية المتعارف عليها. ومن أهم الأسباب الاجتماعية والتربوية التي تؤدي إلى انتشار الرشوة، ما يلي :
1- ضعف الوازع الديني والأخلاقي، حيث يعتبر الوازع الديني والتربية الإيمانية التي تورث خشية الله سبحانه وتعالى هو الرادع الأقوى والأجدى من جميع العقوبات الوضعية الزجرية، فهو يمثل رقابة ربانية إيمانية ذاتية على مستوى سلوك الفرد حيث كان، وأنى كان، يوجهه نحو الخلق الحسن والسلوك القويم، وذلك باتقاء محارم الله والرضى بما قسم الله له مصداقا لقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه : “…اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس…”.
2- ضعف الوعي الاجتماعي : فكثيرا ما نجد أن الانتماءات العشائرية والقبلية والولاءات الحزبية والعلاقات الأسرية وعلاقة القربى والدم والنسب من الأسباب الرئيسية في هذه الانحرافات الإدارية، بحيث يتم تغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة. ولك أخي المسلم أن تتأمل حال كثير من الناس عندما يريد قضاء حاجة أو مصلحة من مصالحه الإدارية كيف يفكر ويتصرف خاصة إذا كانت تعتريها صعوبات في الزمان والمكان والشرع والقانون.
3- انعدام التربية الحسنة : بحيث إن شرائح واسعة من المجتمع اليوم تفتقر إلى التربية السليمة وإلى القيم النبيلة كالإخلاص والصدق والأمانة والحياء والعفاف وحسن التوكل على الله والتسليم بقضائه وقدره بأنه النافع والضار والمعطي والمانع والموفق الذي يُلجأ إليه عند قضاء الحاجات وهلم جرا.
4- تدني المستوى التعليمي والثقافي عند كثير من أفراد المجتمع : فهناك شريحة كبيرة من أفراد المجتمع تفتقر إلى العلم بأحكام الشريعة وحدودها وآدابها وتعاليمها، كما تفتقر إلى الثقافة العامة البانية، ناهيك عن الثقافة القانونية فجهل المواطن بأحكام الشرع والقانون وبالإجراءات الإدارية يجعل منه فريسة سهلة المنال بالنسبة للموظف الذي يحاول دائما تعقيد الإجراءات والتملص من أداء واجبه والوفاء بعهده وقسمه باليمين الذي أخذه على نفسه للحصول على الرشوة. والمواطن البسيط وغيره يجد نفسه ساعتها مضطرا لدفع الرشوة في سبيل الانتهاء من معاملته وتحقيق مصالحه وتلبية أغراضه بالسرعة المطلوبة.
5- ضعف شعور الرأي العالم وعدم إحساسه العملي بمدى منافاة الرشوة لنظم المجتمع وقيمه النبيلة.
فبعد أن كان المرتشي يُعد في نظر المجتمع مرتكبا للجريمة ومقترفا للخطيئة أصبح أفراد المجتمع يشعرون بأن دفع مقابل مادي أو غيره لإنجاز بعض أعمالهم لا يعتبر رشوة، وإنما هو في نظرهم مقابل مساعدة أو مقابل تعب أو خدمة ناسين بأن ذلك الفرد موظف من قبل الدولة ويتقاضى أجره في الأصل من ضرائب المواطنين ومن الرسوم الإدارية والقضائية وفواتير الماء والكهرباء وغير ذلك، ثم بعد ذلك يجتهدون في دفع الرشاوى له ويسبغونها بنوع من المشروعية، وكأنها حلال شرعا، أو جائزة قانونا، ويسمونها إكرامية أو أتعابا، أو مقابل ثمن فنجان من القهوة…
هذه هي حال أغلب الناس في هذا الزمان مع هذا المرض وهذه الآفة الخطيرة، وهذا المرض العضال، والعياذ بالله تعالى.
أيها المسلمون : هذه بصورة مجملة أهم أسباب انتشار آفة الرشوة من الناحية السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، نسأل الله تعالى أن نكون قد وعينا ما سمعنا، وتحققنا من مخاطره وأضراره، كما نسأله أن يوفقنا لاجتناب ذلك أجمعين آمين.