فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
قال الله جلت حكمته : {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا انما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يوفك عنه من افك قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون يسئلون أيان يوم الدين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون إن المتقين في جنات وعيون آخذين ماآتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالاسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم وفي الارض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والارض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}
سورة الذاريات هي سورة اليقين.. اليقين في إقامة البرهان، واليقين في عرض حقائق الإيمان، وخاصة الأصول الكبرى، وخاصة من تلك الأصول : الإيمان بالله واليوم الآخر. إنها ترفع المؤمن إلى مقام اليقين منذ المدرج الأول، وتصرع الكافر بقوة اليقين منذ الجولة الأولى.
إن الخطاب في هذه السورة يتركز حول حقيقة البعث والجزاء، وحتمية وقوع الدين. تماما كما هو في سورة “ق” وغيرها من السور. لكن سورة الذاريات تتميز عن غيرها، بتدفق آياتها على قلب المؤمن من على شرفات اليقين الأعلى كما تتميز بعرض حقائقها اليقينية، عرضا يتوجه من رب العزة -بكاف الخطاب- إلى الكفار مباشرة، أهل الخرص والتشكيك، فيلقي عليهم حقائق الإيمان وبراهين ذات صفعات، وحججا ذات لطمات، تقع على وجه الكفر فتبغته بغتا، وتبهته بهتا.
ومن ثم كان لهذه السورة الرهيبة طبيعة خاصة، ومذاق متميز، يجعلها تستقل بشخصيتها، مبنى ومعنى، وإشارة وعبارة، وحجة وبرهانا، ويجعلها جوهرة كريمة، لها موقعها الهام، الذي لا يعمره سواها في عقد القرآن المجيد.
إن حقائق الإيمان هنا في “الذاريات” تتجلى سيوفا وصوارم من ألماس اليقين، يقين يجعلك تتلقى حقيقة اليوم الآخر، وتبصر واقعته، كما أنك الآن تسمع، وكما أنك الآن تنطق! يقين يتسلط على متارس الشك، والخرص، والظن المريض، في قلوب الكفرة الفجرة، فيقصمها قصما، ويمزقها إربا! إربا بل إنها عاصفة من غضبة الحق، تهب على رمال الشك الزاحفة على النفوس الخبيثة، فتذروها ذروا، حتى لا تبقى منها ذرة واحدة، تصلح حجة لكافر على كفره.
وتتميز سورة الذاريات بكلماتها القوية، ووقعها الشديد، سواء في طريقة البرهنة والحجاج، أو في سبك الأسلوب والتعبير، إنها تعمل على إثبات أركان الإيمان الكبرى جميعها في النفس، بكلمات مختصرة. وتسوق بهذا الأسلوب العجيب المعجز، حقائق الإيمان بالله، واليوم الآخر، والإيمان بالرسل، وبالرسالة والكتاب، وبالملائكة، ثم القدر. كل ذلك تعالجه السورة وتؤسسه في النفس، على مقام اليقين الراسخ المكين.
ولكنها تتفرد في ذلك كله وتتميز، بأسلوبها في الدعوة إلى الإيمان بيوم الدين خاصة، إذ تنتصب عباراتها كلمات وجملا، هي من القوة بحيث تحطم تخرصات القلب، الحاجبة لبصيرته، الطامسة لفطرته، فتجعله يبصر حقائق الآخرة بيقين الشهود وكأن في تسميتها باسم “الذاريات” ـ وهي الرياح ـ إشارة إلى أنها سورة ذات اختصاص بذرو غبار الباطل، ونسف ركامه نسفا، وإجلاء آثاره عن البصائر، كلما حجبها ضبابه عن الإبصار، أو أدخلها في ظلمات الحيرة والضلال.
إن سورة الذاريات هي سورة الوعد الصادق، والخبر الواقع، والحق المبين اليقين، ولذلك ترادفت فيها التعابير القوية المتينة، والكلمات الشديدة المكينة، والجمل الاسمية القصيرة، والتوكيدات المتعددة المتتابعة، والفواصل الكثيرة، آيات محكمات مبينة، منزلة من الرحمن، قواطع لكل ريب، ومخارس لكل جدل كما تعدد فيها القسم من رب العزة جل جلاله -أول السورة ووسطها- القسم بعظائم خلقه، ومظاهر قدرته، على وقوع اليوم الآخر وحتميته. قسم يبني في النفس المؤمنة حصون السكينة ومعراج اليقين، ويحطم في النفس الخبيثة تخرصات الشك، وإلقاءات الشياطين.
وعلى هذا السياق، ومن أجل الهدف، عرضت السورة لآيات الله في الآفاق، ولآياته في الأرض، وفي الأنفس، ثم لسننه الجارية في التاريخ البشري والرسالي، إلى أن تدرجت خواتيمها نحو باب النجاة، فرارا إلى الله، ودخولا تحت أمان عبادته، على مقام اليقين. ثم وقفت على ما بدأت به، من تجديد التهديد والوعيد للخراصين الظالمين، أعداء اليقين، وجاحدي الحق المبين. ثم بقيت كلماتها أصداء قوية في أذن الزمان إلى يوم الدين.
تلك خلاصة مركزة عن طبيعة سورة الذاريات، وبيان لمحورها الأساس.
فلنشرع الآن بحول الله في مدارستها، وتلقي كلماتها على التفصيل، والله المستعان.
الـبـيـان الـعـام :
يكاد يجمع المفسرون إلا قليلا، على أن المقصود بهذه العبارات المقسم بها هنا في مفتتح السورة، أمور أربعة، هي من عظيم مخلوقات الله، ومظاهر من تجليات قدرته جل جلاله. فالذاريات هي الرياح، سميت بذلك لما تقوم به من الذرو، وهو حركة العصف، والإثارة، والتحريك القوي للأشياء، كذرو الغيوم في الفضاء، وتهييج الأمواج في البحار، وإثارة الغبار والرمال في الأرض، وشتى ضروب الهشيم والغثاء(1).
وأما “الحاملات وقرا” فهي السحب المحملة بالأمطار، والوقر كالحِمْل، وزنا ومعنى، جمعه أوقار، وهي : الأحمال والأثقال(2). وأما “الجاريات يسرا” فهي السفن تجري على البحر بيسر وسهولة، ويلحق بها الناقلات الجارية في البر، والطائرات الضاربات في أعالي الفضاء، فكل ذلك مشمول بوصف “الجاريات”. وأما “المقسمات أمرا” فهي الملائكة الموكلة بتقسيم الأرزاق والمقادير، على ما قدر الله في الأزل وقضى.
هذا هو المشهور عن الصحابة رضوان الله عليهم في تفسير هذه العبارات الأربع، وقد روي ذلك عن علي رضي الله عنه بأسانيد كثيرة، كما عند الطبري(3). ورواه البخاري عنه مختصرا معلقا(4). كما رُوي نحوه عن ابن عباس وعمر، وبعض التابعين كمجاهد. وقيل : إنما المقصود بهذه الكلمات كلها شيء واحد، هو الرياح، ذُكرت باختلاف صفاتها، وتعدد وظائفها. فهي تهيج فتذرو الأشياء حينا، وتحمل أوقار الغيوم حينا، ثم تجري يسرا حينا آخر، وتقسم مقاييس الأمطار على الأقاليم على ما قدر الله، أحيانا أخرى(5). لكن المعنى الأول أرجح، لأنه أثبت من جهة، ولأن تعديد البرهان وتنويعه أنسب هنا، لإثبات المقسم عليه، من أمر الوعد الحق، والبعث والنشور.
———-
1- نقول : ذرا الفلاح القمح وذراه أيضا، يذروه ويذريه ويذريه : إذا جعل يرفع ركامه في البيدر بالمذراة، ثم يرمي به في الهواء بين يديه، لتصفيته من التبن والقذى. ن. مادة “ذرا” و”ذرو” في لسان العرب وغيره.
2- قال صاحب الصحاح : (الوقر بالفتح : الثقل في الأذن. والوقر بالكسر : الحمل. يقال : جاء يحمل وقره. وقد أوقر بغيره. وأكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار، والوسق في حمل البعير. وهذه امرأة موقرة، إذا حملت حملا ثقيلا. وأوقرت النخلة، أي كثر حملها)، مادة : “وقر”
3- ن. تفسيره للآيات
4- ن. كتاب التفسير في صحيحه
5- ن. تفسير الآيات في مفاتيح الغيب للرازي.