في بغض الثرثرة والتشدق والتفيهق(1)
روى الترمذي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن مِن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أَحاسِنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون))(1).
مدار الحديث النبوي على أربعة أمور: حب وقرب، وبغض وبعد، وقد جمعت هذه الأمور بين العاطفة والمكان أو المكانة، وهي كلها مؤطرة بإطار زماني هو يوم القيامة.
بَنَى النبيّ صلى الله عليه وسلم محبته والقرب منه على حسن الأخلاق، وبَنَى بغضَه والبعد منه على الثرثرة والتشدق والتفيهق، ومن هنا تبدو الملاحظة الأولى، وهي أنه لم يبن البغض والبعد-من باب التقابل في الكلام- على سوء الأخلاق، وإن كانت مراعاة السياق والمقابلة بين شقي الكلام تقتضيه؛ إذ يفهم من الأمور الثلاثة التي تبغِّض الناس إليه، وتُبعدهم منه أنها جزء من كل، وأنه لم يذكرها إلا لأنها ذروة سنام مساوئ الأخلاق.
وينبغي أن لا يُفهم هنا أن سوء الأخلاق يصل إلى مداه الأقصى؛ لأن المسألة مرتبطة بمركز هو مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ومعلوم أن هذا المجلس في الجنة، فمن ثم كانت المسألة مسألة مقامات أهل الجنة، وهي مقامات متصلة بالمسافة الأخلاقية التي تفصل الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمر آخر هو أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث عن المحبة أولا، والقرب منه ثانيا، مما يفيد أن القرب نفسه ناتج عن محبته صلى الله عليه وسلم، وهذه ناتجة عن فضْل أخلاق المحبوب المقرَّب على أخلاق غيره، فقد استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب التفضيل ((أحاسنكم أخلاقا)) للدلالة على أن القرْب ليس مرتبطا فقط بحسن الخُلق؛ بل بالأحسنية في ذلك، وكلما ازدادت درجة الأحسنية ازدادت المحبة النبوية، وكلما ازدادت هذه ازداد القرْب من النبي صلى الله عليه وسلم، والعكس صحيح أيضا، ومن ثم فالمجلس النبوي مبني على مكارم الأخلاق، والالتحاق به مبني على التحلي بها، أما القرب والبعد عن المركز في المجلس فمبنيان على التفاضل في تلك المكارم.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما تحدث عن الأحاسن أخلاقا قال: ((من أحبكم إلي))، ودخول ((من)) على هذه الجملة دال على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه الفئة كلها، ولكن حبه لها تختلف درجته باختلاف المرتبة الأخلاقية لأفرادها.
وعلى كل حال فما يهمنا من الفقرة السابقة هو أنه إذا كانت هناك استثناءات في القسم الأول من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا استثناء في القسم الثاني، ومنه يفهم أن الطبقة الأولى في البغض النبوي والبعد من مجالس النبي صلى الله عليه وسلم هي طبقة الثرثارين والمتشدقين والمتفيهقين، فمن هؤلاء؟ وما الذي جعلهم يستحقون ذلك؟
أول مدخل لفهم هذا الطبقة من الناس هو حديث الباب نفسه، ففيه أن الصحابة رضي الله عنهم سألوه: ((قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون)).
ومعنى هذا أن الصحابة لم يكن لهم علم بمعنى هذا اللفظ، أو بدلالته في هذا السياق، فمن ثم كان سؤالهم عن معناه.
والمدخل الثاني للحديث تعليق أبي عيسى الترمذي عليه بقوله: ((والثرثار هو الكثير الكلام، والمتشدق الذي يتطاول على الناس في الكلام، ويبذو عليهم))(2).
ومن هذين التوضيحين لمعنى الحديث يظهر أن مدار البغض النبوي والبعد من مجلسه على إطلاق قوم العنان لألسنتهم.
وأما المدخل الثالث لحديث الباب فهو ما ورد في معاجم اللغة:
أما ((الثرثار)) فأصله الثر، وهو غُزْر الشيء، ومنه الرجل الثرثار: الكثير الكلام(3)، والصَّيَّاح(4)، والمهذار(5)، والثرثرة في الكلام: ((الكثرة والترديد))(6)، والتخليط (7)، والثرثارون في الحديث ((هم الذين يكثرون الكلام تكلفا، وخروجا عن الحق))(8).
فقد بان أن لفظ ((الثرثار)) يحمل معاني: منها أنه الكثير الكلام، والصياح، والمهذار، والمردد للكلام، والمخلط، والمتكلف، والخارج عن الحق…
فالمسألة بناء على ذلك ليست مسألة كثرة كلام؛ أي: ليست مسألة كم فقط؛ بل مسألة نوع أيضا، وكوْن الأصل في المادة هو الغزارة والكثرة يفيد أن الآفات التي دخلت كلام الثرثار ناتجة عن عاملين:
أولهما أن نفسية هذا الثرثار غير سوية؛ لأنه يريد أن يسمعه الناس وهو يتكلم، ومن هنا دخلته آفة التكلف، والصياح.
والآخر خروج الكلام عن سيطرته لغزارته؛ إذ لو كان قليلا لتحكم فيه، فلما غزر وكثر دخلته آفات: منها الترديد، والتخليط.
وأصل لفظ المتشدق ((شِدْق)) ، وهو ((يدل على انفراج في شيء، من ذلك الشدق للإنسان وغيره، والشدَق: سعة الشدق))(9)، و((خطيب أشدق: بيِّن الشدَق: مجيد… وتشدق في كلامه: فتح فمه واتسع))(10)، و((المتشدق: الذي يلوي شدقه للتفصح))(11)، والمتوسع في الكلام ((من غير احتياط واحتراز))(12)، وقد قيل: إن المقصود بالمتشدق في الحديث النبوي: ((المستهزئ بالناس، يلوي شدقه بهم وعليهم))(13).
ومما سبق نرى أن مدار المادة على أمرين:
أمر محمود، وهو ما كان عن غير تكلف ولا تصنع، ومن ثم قالوا: خطيب أشدق، أي ((مفوّه كِلِّيم))(14)، وقد كانت العرب تمتدح بافتتاح الكلام واختتامه بالأشداق، وبرُحبها(15).
وأمر مذموم، وهو ما كان عن تكلف وتصنع، وإليه الإشارة في حديث الباب؛ والمتشدق الذي يستخدم شدقيه بتكلف ليظهر أنه فصيح، ويشبه الأشدق في الفصاحة.
وأصل لفظ ((المتفيهق)) فهق، وهو أصل دال على ((سعة وامتلاء، من ذلك: الفَهْقُ: الامتلاء. يقال: أفهقت الكأس إذا ملأتها))(16)، و((تفيهق في كلامه: توسع وتنطع))(17)، والمتفيهقون ((الذين يتوسعون في الكلام، ويفتحون به أفواههم، مأخوذ من الفهق، وهو الامتلاء والاتساع))(18).
من ذلك يفهم أن التفيهق كثرة الكلام مع توسع وتنطع، وأن هذه الكثرة تصل حد الامتلاء، ولكنه امتلاء كفراغ؛ لأنه مبني كله على تنطع، وإنما كان ذلك كله لتكبر المتكلم على الناس اعتقادا منه أنه أفضل منهم، وأقدر على التكلم.
———-
1 – صحيح سنن الترمذي، 2/384-385، حديث رقم 2018، كتاب البر، باب ما جاء في معالي الأخلاق. قال الترمذي معلقا عليه: “وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وروى بعضهم هذا الحديث عن المبارك بن فضالة عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه عن عبد ربه بن سعيد. وهذا أصح…”. وصححه الألباني.
2 – صحيح سنن الترمذي، 2/385.
3 – مقاييس اللغة، 1/367-368، مادة ثر.
4 – لسان العرب، 4/102، مادة ثر.
5 – م.س.
6 – م.س.
7 – م.س.
8 – م.س.
9 – مقاييس اللغة، 3/255، مادة شدق.
10 – لسان العرب، 10/173، مادة شدق.
11 – م.س.
12 – النهاية في غريب الحديث والأثر، 2/453، مادة شدق.
13 – م.س.
14 – أساس البلاغة، ص: 324، مادة شدق.
15 – النهاية في غريب الحديث والأثر، 2/453، مادة شدق.
16 – مقاييس اللغة، 4/456، مادة فهق.
17 – لسان العرب، 10/314، مادة فهق.
18 – النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/453، مادة فهق.