روى الترمذي عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الحيَاءُ وَالعِيُّ شُعْبَتان مِنَ الإيمان، وَالبَذَاءُ والبَيَان شُعْبَتان مِنَ النِّفاق))(1).
يفاجئنا هذا الحديث بنظرة مختلفة إلى البيان، فإذا كنا قد رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من البيان لسحرا))(2)، فها نحن أولاء نراه يقول بأن البيان من شعب النفاق، ومنذ البداية نرى أن البيان ليس واحدا، وأول فائدة لهذا الاختلاف هي بيان علة التبعيض الذي ورد في نص سحر البيان.
أول ما يلاحظ في حديث الباب أنه يسلك الحياء والعي في نسق واحد، ويجعل الإيمان قاسما مشتركا بينهما، وبناء على هذا العطف بينهما لا يمكن أن نحمل العي هنا معنى الجهل والعجز كما يَرِد في معاجم اللغة(3).
كما أن النص يسلك البذاء والبيان في نسق واحد، ويجعل النفاق قاسما مشتركا بينهما، وبناء عليه لا نملك إلا أن نستبعد البيان هنا بمعنى ((ما تقع به الإبانة عن المراد))(4)، و((إظهار المقصود بأبلغ لفظ))(5))) لأن هذا يخالف السياق.
ثم إن مراعاة السياق تجعلنا نلاحظ كذلك أن النص يضعنا أمام مقابلة بين طرفين متعارضين هما: الحياء والعي من جهة، والبذاء والبيان من جهة أخرى، ومعلوم أن البذاء مناقض للحياء)) لأنه دال على ((الفحش في القول))(6)، ومنه يُفهَم أنه لا يَكون صاحب اللسان البذيء حَيِيا.
والسياق نفسه يجعلنا نَخلص إلى أن العي في النص ضد البيان، وأن هذا التضاد مرتبط سياقيا بالحديث عن الحياء والبذاء، وما دام أمر ثلاثة ألفاظ دائرا على القول هي: العي، والبذاء، والبيان، فإننا لا نملك إلا أن نفهم من الحديث أن العي تَكلُّمٌ حَيِي، وأن البيان تَكلُّمٌ منافق، وأما الحياء فهو عام يَدل على القول وغيره، وهو في جميع أحواله يَجر إليه المعنى ليُفيد أن ما دار في مداره كان محمودا، وما ابتعد عنه كان مذموما، فمِن ثم التصق به العي بالعطف في انتمائهما إلى الإيمان، وأُبعِد عنه البيان المنافق لبُعده عن الحياء واتصاله بالبذاء.
والظاهر أن اختلاف حديث الباب عن الآيات والأحاديث الصريحة في مدح البيان نتج عنه سوء فهم لدى البعض(7)، ومن ثم رأينا الترمذي يبادر إلى التعليق على الحديث لرفع الإشكال، وذلك بقوله: ((العي: قلة الكلام، والبذاء: هو الفحش في الكلام، والبيان: هو كثرة الكلام)) مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون)) فيوسعون في الكلام ويتفصحون فيه)) من مدح الناس فيما لا يرضي الله))(8).
وأقل فائدة لتوضيح الترمذي أن للعي والبيان معنى كميا إذا غاب عن الأذهان لم يُؤمَن مِن وقوع اللبس في الفَهم.
وإشارة الترمذي نفيسة في بابها، وهي مُخْرِجة من الإشكال بنظرتها إلى المصطلحات المستعملة نظرة كمية، وبناء على ذلك يكتسي العي صفة إيجابية)) لأنه يصير دالا على قلة الكلام، وهذه القلة ممدوحة في غير ما حديث، وقد سبق بعض ذلك في أبواب اللسان والكلام، كما يكتسي البيان صفة سلبية باعتباره دالا على كثرة الكلام، وهذه الكثرة مذمومة في غير ما حديث أيضا، وحسبنا من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن من أحبكم إلي، وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة، الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون))(9)، وقد قال الترمذي عقبه أيضا: ((والثرثار هو كثير الكلام، والمتشدق: الذي يتطاول على الناس في الكلام، ويبذو عليهم))(10).
والجمع بين الحديثين والتفسيرين يجعلنا نَفهم حديث الباب الفهمَ الذي سقناه سابقا، ونوجِّه العي والبيان وجهة مختلفة عن تلك المتداولة شأن عدد كبير من الألفاظ التي كان النبي ( يعطيهما معاني جديدة كالمفلس(11)، والشديد(12)…
وهناك نظرة نوعية للعي نقف عليها عند المباركفوري في شرحه للحديث، فعنده أن المراد بالعي في حديث الباب ((هو السكوت عما فيه إثم من النثر والشعر))(13)، وأنه ((التحير في الكلام)) في دلالته على ((ما كان بسبب التأمل في المقال والتحرز عن الوبال))(14).
والبيان في الحديث عنده أيضا ((الفصاحة الزائدة عن مقدار حاجة الإنسان، من التعمق في النطق، وإظهار التفاصح للتقدم على الأعيان))، ((والتكلف للناس بكثرة التملق والثناء عليهم وإظهار التفصح وذلك ليس من شأن أهل الإيمان، وقد يتملق الإنسان إلى حد يخرجه إلى صريح النفاق وحقيقته))(15).
ونظرة المباركفوري نوعية، ومن ثم فهي مكملة لنظرة الترمذي، فإذا جمعنا بينهما أمكن لنا أن نفهم:
أن العي محمود في دلالته على قلة الكلام، والسكوت عن الآثام)) إذ العي أفضل من الخوض في الغيبة والنميمة والفحش…
وأن البيان في دلالته على كثرة الكلام والتظاهر بالاقتدار عليه وتشقيقه من النفاق، لارتباطه بحب الظهور، والتركيز على ما يُعجِب الناس وينتزع منهم عبارات المدح والإطراء… وهو بهذا مُوقِع في المراء)) بل وفي النفاق.
ونحن نعلم أن من علامات المنافق أنه ((إذا حدث كذب))، وأنه ((إذا خاصم فجر))(16)، والفجور بذاء، وقد مرت الإشارة إلى علاقة البذاء بالبيان فيما يستنبط من السياق.
بقي أن نشير إلى أن حديث الباب في دورانه على الإيمان وتركيزه على الحياء في القول يصب في حديث شعب الإيمان، فقد روى الإمام البخاري ((عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان))(17)، ولذلك ((فإن المؤمن يحمله الإيمان على الحياء، فيترك القبائح حياء من الله تعالى، ويمنعه عن الاجتراء على الكلام شفقة عن عثرة اللسان))(18).
——
1- صحيح سنن الترمذي، 1/389، حديث رقم 2027، كتاب البر، باب ما جاء في العي. قال الترمذي: ((هذا حديث))، وصححه الألباني.
2- صحيح البخاري، 3/360، حديث رقم 5146، كتاب النكاح، باب الخطبة.
3- النهاية في غريب الحديث والأثر، 4/334، ولسان العرب، 15/109-110 مادة ((عيا)).
4- فتح الباري، 10/237.
5- النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/174، مادة ((بين)).
6- م.س، 1/111، مادة ((بذا)).
7- ن. مثلا كيف أن الجاحظ تجرأ على رد حديث الباب لمناقضته لما جاء في مدح البيان في القرآن والسنة. البيان والتبين، 1/105.
8- النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/174، مادة ((بين)).
9- صحيح سنن الترمذي، 2/384-395، حديث رقم 2018، كتاب البر، باب ما جاء في معالي الأخلاق. قال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب))، وصححه الألباني.
10- م.س.
11- ن. صحيح مسلم، حديث رقم 2581، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلم.
12- ن. صحيح البخاري، 4/107، حديث رقم 6114، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب…
13- تحفة الأحوذي، المباركفوري، 6/147، دار الكتب العلمية، بيروت.
14- م.س.
15- م.س.
16- ن. صحيح البخاري، 1/28، حديث رقم 34، كتاب الإيمان، باب علامات المنافق.
17- صحيح البخاري، 1/23، حديث رقم 9، كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان.
18- تحفة الأحوذي، 6/147.