الثقوب السوداء في الكون ناتجة عن موت نجم في الفضاء وانهيار مادته وانكماشها وتراصها، بحيث تصير ذات قوة هائلة على منع كل جُسيْم داخلها من الانفلات، وجذب كل جسم اقترب منها وابتلاعه، بما في ذلك “فوتونات” الضوء التي تنحبس داخل الثقب الأسود ولا تنعكس. لذلك كانت هذه الثقوبُ سوداءَ محاطةً بهالة من السواد خاليةً من النور، بل تجذب إليها كل نور وتقبره في جوفها ليتحول كل شيء إلى سكون وظلام. لذلك شبه العلماءُ الثقوبَ السوداء في الكون بمعتقلات تسجن فيها كل الأجسام، حتى النجوم والكواكب الكبيرة، ويعتقل فيها الضوء والحركة والزمان، وهي بمثابة مقابر يدفن فيها كل ذلك وإلى الأبد.
إن هذا الذي يجري في كون الله الطبيعي -عالم الأفلاك والمجرات وعالم الأجسام والذرات- وفق سننه الكونية يجري مثيله في عالم الاجتماع الإنساني وفق سنن الله في التدافع بين الحق والباطل. والذي يقابل الثقوب السوداء في عالم الاجتماع البشري “لوبيات” الفساد أفرادا وجماعات ومؤسسات… إذ تكون قادرة على امتصاص كل الأجسام الاجتماعية واعتقالها في دائرتها بما فيها الأجسام المضيئة وتعطيل حركتها وفاعليتها، وإيقاف حركة الزمان والتاريخ، وكما أن هذه الثقوب لا يمكن رؤيتها، فكذلك جيوب الفساد وثقوبه السوداء توجد في المجتمع، وتجري في عروقه مجرى الدم في الجسم، ويصعب ضبطها، لأنها تتزيّـى وتتغطى بأغطية خادعة، ومَكمَن خطورتها هي أنها تمتلك قوة الخداع والجذب والإفناء والإقبار، حتى في حق النجوم الكبار في الأمة.
إن الأمة الإسلامية في بعثتها الجديدة، وفي إرهاصات هذه البعثة، تعترضها مقاومة شرسة للقبائل والأحزاب وأهل الأهواء من هذه الثقوب السوداء، الذين تحالفوا وتآلفوا على تأخير قطار الأمة عن موعده مع التاريخ، غير أن الله وعد، ووعده صادق فقال: {سيهزم الجمع ويولون الدبر}، وأخبر أن ما ينفقونه سيؤول إلى البوار: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}.
إن أجسام الأمة المضيئة وهي تتقلد اليوم مقاليد الأمور، أو تتهيأ لذلك قريبا إن شاء الله تعالى، عليها أن تفقه فقهاً دقيقا ما يلي:
أولا- أن الثبات في الموقع الذي أوجدها الله فيه؛ موقع الحق، ووظيفة تكبير الله في كل شيء، والعبودية لله الخالق الرازق هو سبيل النجاح والبقاء، {فاستقم كما أمرت}، {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
ثانيا- أن إرسال النور، وبكثافة، أفرادا وجماعات ومؤسسات، ومن كل المواقع والمستويات، وفي كل الاتجاهات، هو السبيل الأنجع لحفظ بقاء الأمة واستمرار خيريتها.
ثالثا- أن الانحراف عن المسار، والاقتراب من مناطق الثقوب السوداء، ليس إلا اقترابا من الموت والانهيار، ومن الفاعلية إلى الانفعالية، ومن الحياة إلى الممات، ومن ولاية الرحمن إلى غواية الشيطان: “ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا”.
رابعا- أن الله جل وعلا جعل النور والنجوم البيضاء المضيئة دليل الحياة والحركة والبركة والبقاء، وبقدر وجودها تكون الحياة. أما الثقوب السوداء فهي مصدر الظلام ومقبرة النور، وكلما ازدادت اتسعت دائرة الفناء، فيكفي المسلم شرفا أن جعله الله نجما، وما يحمله من العلم والنور ويستقيم عليه هو الحياة الطيبة لكل إنسان: {استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مومن فلنحيينه حياة طيبة}.
خامسا- الإيمان بسنن الله في الابتلاء والتدافع، يستلزم الإخلاص والصواب، وحسن تسخير واستثمار المسخرات والمقدرات، والتخطيط الحكيم والمحكم لحاجيات الأمة ولواجبات الوقت، ومنها مما لابد منه:
- تشخيص حاجيات الأمة في كل مجال وتخصص، إعلاما وتعليما وقضاء واقتصادا.. تشخيصا علميا عاجلا غير آجل.
- البحث عن الرواحل والنجوم الكبيرة في وزنها كمّا وكيفا، والعالية في هممها علو النجوم في قممها، ورعايتها حق الرعاية، والعناية بها كل العناية لتصير صالحة للزرع والإثمار وبلوغ النهاية في كل قصد وغاية.
- بناء المؤسسات الفاعلة والمشارِكة بناء علميا رشيدا متكاملا ومتناسقا في كل مفاصل جسم الأمة قادرا على لـمِّ شتات الأمة والنهوض والسير بها في مسارها قوية قويمة، وسوية رشيدة.
- التخلق بأخلاق الحلم والعلم، والحزم والعزم، والرشد والحكمة، والود والرحمة، والاستقامة والشهامة، والفخر والاعتزاز بما حبا الله هذه الأمة من العزة والكرامة، وتوخي سبل السلم والسلامة، والاستقلال والقوامة تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا.
فلا شهود لهذه الأمة من غير الوعي بالسنن الربانية، ولا قوامة لها من غير الأخذ بأسباب القوة، ولا خيرية لها من غير التخلق بالأحسن من الأخلاق إخلاصا واتباعا والتزاما.
{والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.