هل كنت أعددت لهذه الكلمات التي يحملها هذا العنوان؟ هل كنت رصفتها بدماغي لتكون استعراضا وجدانيا مقصودا لإبهار القارئ وتجييش مشاعره إلى جانبي؟؟
ما أستطيع تأكيده وأنا أعود إلى تلك اللحظات الأليمة الفارقة بين زمن الأمومة الحانية الرحيمة وزمن اليتم القاسي، هو أن أمي كانت مسجاة في نعشها والعزيزة زبيدة هرماس المولعة بتنزيل السنة النبوية في أدق تفاصيل حياتنا كما عرفتها تستحثنا لرص صفنا النسائي وأداء صلاة الجنازة أسوة بنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الحبيب المصطفى حين وفاته.. آنذاك وصوت إحدى الأخوات المعزيات يتهدج بالدعاء لأمي بعد أداء الصلاة، ألفيتني أتلقف دعاءها بعفوية وجدانية وأنخرط في استكمال تحليقها في ملكوت هذا الدعاء النبوي العجيب بكل كياني “مع تحوير عفوي” (اللهم لا أسألك أمي ولكنني أسألك أمــتي)..
راحـلـة إلى قـدرها
لم يكن أحد من إخوتي يستطيع رد أمي وهي تيمم صوب قدرها بمكناسة الزيتون فقد أصرت على السفر لاستقبال أخي العائد من الحج رفقة زوجته.
تعللنا لها بوعثاء السفر وأمراضها المزمنة لكنها أبت إلا أن تخف إلى قدرها، وهناك ستصاب بكسر في وركها. وهي المريضة بداء السكري وتشمع الكبد ستظل رهينة سيارة الإسعاف تنقلنا من مشفى إلى مشفى بلا جدوى، فالمرضين العضالين يصدان كل الأطباء عن المغامرة بإجراء عملية الترميم خوفا من المضاعفات.. ولليلة كاملة ظلت أمي تئن “آربي رجلي رجلي”..، ونحن مغمورون بالحزن الممض لآلامها نجرب كل الوصفات المهدئة لنشحنها بالمصابرة، وصباحا قررنا ترحيلها إلى الدار البيضاء، لنحط مرة أخرى بسيارة الإسعاف بمصحات ومصحات، ولا طبيب يغامر بإجراء عملية الخلاص من الألم.
وخيوط المساء تسدل ستار العتمة كانت أمي أخيرا قد أخذت سريرها بجناح الإنعاش بإحدى المصحات، وآنها انفرجت غياهب القنوط التي عصفت بقلوبنا ووجدنا أنفسنا نلتئم حول أمي ونتبارى في إغداق لمسات الحب الأكثر رقة عليها.. كان لكل واحد من إخوتي مساحة من القلق والخوف من شبح رحيل باهض لأمي لم نكن نستطيع تحمله في تلك اللحظات العصيبة.. ووجدنا مشاعر التقصير تنعجن بمشاعر الوفاء لتتولد عنها حالة بين الخوف والرجاء، حالة جعلتنا نفد جميعا على عشها الأثير بمسكن طفولتنا حيث سريرها وأدويتها وكل أشيائها الصغيرة / الكبيرة في عينيها.
انسحقت كل المسافات الجغرافية وترك إخوتي مشاغلهم وحجوا إلى بيتها يتسامرون ويتعاتبون ويتذكرون ويرتقون الصدوع ويبعثون من مرقدها بالأمس الغارب حماقات الصبا الجميل في حـي من أجمل أحياء الدار البيضاء شاعرية ورومانسية: “حي العنق” حي غدا مطمع كل الباحثين عن الاغتناء الفاحش عبر العقار، وهم يتطلعون بجشعهم المعتاد إلى حزامه البحري الذي يشكل طوقا من زرقة تتربع نافورة على جيده، وتنساب بين كر وفر هسهسة عذبة، تدعو الحالمين للإبحار بين طيات موجه المتراكض إلى حتفه صباحا ومساء، صيفا وشتاء.
وكنت وإخوتي أيام هيامنا بسحره الأزرق، نتابع صخبه من شرقة بيت أمي، وتمتزج أنفاسنا بملوحة وزفر طحالبه فتنتعش أرواحنا مع مطلع كل صباح، نجمع فيه أغراضنا لنخف رفقة أبناء الحي من الصبيان إلى هوايتنا الأثيرة السباحة التي كنا نبرع في تنزيل تقنياتها في شقوة لذيذة أفلت مع نضج الكبر وولوج مرحلة التكليف وتشبع الذات بأنوار الإيمان، ويكاد يجهض بقاياها أولئك المتربصون بحينا لبيعه صفقة خيالية الثمن إلى المستثمرين الكبار محليا وعالميا والرمي بنا إلى ضواحي البيضاء حيث فيافي الضجر والذباب والمزابل الجاثمة على صدر المستضعفين..
فمن يجرؤ على سرقة زمننا هذا الضاج حراكا هادئا وأحلاما زرقاء، لرهنها لجيب القطط السمان باسم سياحة مريبة، تهرب صغيراتنا الجميلات الغريرات إلى ساحل شاطئ “عين الذئاب” حيث تغتال حقا حقوق القاصرات بعيدا عن الرصد الإعلامي الموجه؟..
استعدنا محطاته أخيرا بنوستالجيا الشوق الممزوج بكركراتنا الصافية وقلوبنا على أنات أمي تنتزعنا من سيرة التذكار وتطوح بنا في غياهب القلق.
… ومرة أخرى يرفض الأطباء إجراء العملية، وبقرار طبي أعيدت أمي في حمالة طبية إلى بيتها..وظلت لليال عصيبة تصرخ “آرجلي آآآآآآربي”.. وهي المهووسة بنظافتها الحميمية رفضت أن تظل حبيسة الفراش.. فكانت تعض على مابقي من قواها وتمطرنا بالدعاء لمساعدتها على الذهاب إلى دورة المياه. لم تستطع أبدا أن تتقبل غسيلا موضعيا لا تسكب فيه ماء كثيرا على نفسها كما ألفت أن تفعل وبسخاء.
كانت تركيبة أمي الصحراوية المنتهية في نسبها إلى الشرفاء العروسيين من آيت بيبا، تجمع في كميائها توابل طهرانية عجيبة.. فمن جهة كانت مسكونة بالنزوع إلى الطهارة والعشق المفرط للوضوء والاغتسال والتعطر وصون ملابسها عن كل شبهة من أوساخ وإن عابرة، ومن جهة أخرى وعلى مستوى ممارساتها تعبدا ومعاملة كانت دقيقة الالتزام بمواقيت صلاتها.. وكانت صلاة فجرها أجمل أوقات إلحاحها في الدعاء لعائلتها الصغيرة فردا فردا، الأحياء منهم والأموات. وما سمعت أذني قط إلحاحا يشبه إلحاحها وهي تردد ذلك الدعاء العظيم:
(يا ربي نكونو جيران النبي أنا ووليداتي والمسلمين والمسلمات)
ودعائها الآخر (يا ربي ما نعذب ما نتعذب)
وكان وصلها لعائلتنا وجيراننا شيئا استثنائيا، فقد ظلت حتى وهي تصارع تطور مرضها العضال تشمع الكبد الذي يعيقها عن الحركة تنزل طوابق عمارتنا الأربع لزيارة رحمها ومعارفها وجاراتها.. وكانت لها في إنفاقها أسرار وكرامات عجيبة فقد كانت تنفق إنفاق من لا يخشى الفقر، فلمشتريات بسيطة كانت تنفح أبناء الجيران من المتطوعين أجرا يقارب ثمن مقتنياتها.. وكانت تنفق معاشها الزهيد وعطاءات إخوتي الشهرية في إغاثة الملهوف وعيادة المريض وإدخال الفرحة على صبية مقر سكنانا خاصة اليتامى منهم.. وإذا نبهها أحد من إخوتي لإنفاقها الزائد ردت بلازمة قرآنية لا تفارقها {فأما اليتيم فلا تقهر}. وكانت أختي الصغرى تتفنن في اصطياد أسباب رضاها فتمطرها بجميل الثياب متلذذة بدعائها الآخر الأثير : (الله يكسيك فالدنيا والآخرة). فإذا ما زرناها أياما بعد تلك المقتنيات وجدنا دولابها قد فرغ من المشتريات الجديدة فإذا ما عاتبناها قالت بيقين المؤمن : (أنفق مافي الجيب يأتيك مافي الغيب) ووالله ما أنفقت أمي نفقة في سبيل الله صباحا إلا ضاعف الله لها ما أنفقته مساء فجاءها المال والثياب من حيث لا تحتسب.
وترجلت سيدة الكرم عن صهوة الحياة
أياما قليلة من الآلام الرهيبة واستجاب الله لدعائها بأن لا تتعذب ولا تعذب واستسلمت أمي لغيبوبة تعسر معها الكلام، وانخرطت في هذيان قاس على أكبادنا المنفطرة حزنا وكمدا.. وانسحبت الكلمات من شفتيها المتورمتين وتوارت نظراتها بانغلاق عينيها.. وسيكون لي موعد مع آخر كرامة منحني المولى إياها ليربط بها على قلبي في أيام الفقد هاته العسيرة، فقد كان الوقت مساء، وكنت أستعد لزيارة بيتي بعد أيام طويلة من المرابطة في بيتنا العائلي وكانت أمي مسجاة بلا حراك إلا من أنفاسها المتقطعة ووجهها الجيري المنغلق. ناديتها فلم تجب، رفعت صوتي، لا مجيب.. صرخت في أذنها : “أمي أجيبيني.. افتحي عينيك، أرجوك” ويالقدرة الله سبحانه فقد فتحتهما ونظرت إلي بعينين زجاجيتين، كانتا تعالجان سكرة الموت ولم أكن أدري، وطمعت في عطاء أوفر فصرخت في أذنها مرة أخرى : “أمي ارضي عليّ”، ويا لقدرة الله العظيمة فقد خرجت الكلمات بطيئة متعثرة من فمها ولكنها مفهومة : الله يرضييييييي عليييك
واستبد بي طمع أكبر في انتهاز هذا المد الرباني للكريم الذي إذا أعطى أدهش فصرخت في أذنها مرة أخرى : أميييييي أريد بسمة صغيرة منك بسمة واحدة تعزيني.. ويا لقدرة العظيم فقد افتر فمها عن بسمة رائعة، فأشبعتها قبلا في وجهها وبنهم الوداع. واللحظة تستبد بي الرغبة في أن أرجك قارئي رجلا كنت أو امرأة لأقول لك في التماس عاجل جدا جدا : إن كانت لك أم أو أب أو هما معا ولا زالا حيــيــن فهرول لإغداق الحب عليهما وبكل السخاء وبكل الأشكال، ولا تسوف مظاهر حبك لهما ولو لثانية فإنك إن رحلا إلى قبريهما فاتك أوان الاستدراك وزمن الرفل في جنان الوداد والرحمة الأبوية، ويوشك أن يتحقق فيك لا قدر الله قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : (رغم أنف من أدرك أبويه أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة).
ظهرا وأنا ببيتي أجمع أغراضا تحتاجها أمي جاءني الخبر القاصم : رن الهاتف وهزني صوت النذير : (البركة في راسك، الوالدة الله يرحمها).
ماتت أمي ظهرا يوم 12 من شهر 12 من سنة 2012 والعالم يمور بمزايدات الدجالين الغربيين الذين جعلوا الناس يحيون رعبا خرافيا بادعائهم نهاية العالم بتاريخ هذا اليوم. فمن قال بأن الفكر الخرافي ماركة مسجلة حصريا باسم العرب والمسلمين!!!؟؟.
صبيحة دفن أمي وأنا أرى بيتها يغدو خلية نسائية لوفود أخواتي من النساء العاملات في مجال تحفيظ القرآن الكريم وتعليمه، وقد أحلن بيتها إلى خلية ذكر ودعاء وتلاوة للقرآن الكريم تسرب نور الرضى العميم بقضاء الله إلى كياني واستوطنت إشعاعات الرحمة الربانية وجداني وألفيتني أردد : رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا و{إنا لله وإنا إليه راجعون}.
وفي تلك اللحظة من القطيعة الأليمة مع عالم الدفء والانسياب الهادر لأدعية الأمومة السخية : (سيري يا فوزية عمر برادك مايوكح، وعمر صينيتتك ما تخوا، والعود اللي بغا يتلقى ليك يتهرس) انبجست من غياهب الحزن والأسى مهامي الأكبر وتذكرت، وإذا أنا مبصرة همي الهاجع : أمتي، ووجدتني في ذلك الجمع النسائي المبارك أردد كالممسوسة : اللهم لا أسألك أمي ولكن أسألك أمتي، وانخرطت في الدعاء لسوريا وفلسطين ومصر والعراق وليبيا وتونس وكل شبر من الأرض يتنفس توحيدا. لم يحجب عني حبي للغالية أمي هموم وطني وأمتي جمعاء، فقد كنت أدرك كما غيري من المحبين الصادقين أن الشبح الشبيه بثعلب الأديب بوزفور الذي يظهر ويختفي هنا وهناك استفاق من سيناريو إغراق العالم العربي في فرقات وشتات وهمي، على كابوس إيقاع المد الإسلامي وتمكن الشعوب من فرض نبضها الإسلامي عبر صناديق الاقتراع وبديمقراطية كاملة، وهو ذا غير يائس يعد خلطات هلاك أخرى لضرب اختيارات الشعوب والزج بها في مربع الصدام الذي لا ينتهي، وليس المغرب عن مهب الإعصار ببعيد.
أمي العربية الصحراوية وأبي الأمازيغي الباسق الأمازيغية في لحظة تمازج تحت راية الإسلام وفي ظله اللاحم لكل الأجناس واللغات ولداني كما ولدا إخوتي في انسجام تام وفي كل جزء من هذا الوطن قصص التحام لجغرافية الشمال مع الجنوب مع الشرق مع الغرب مع الوسط ولد هذا النسيج من أبناء وبنات وطن واحد اسمه المغرب الجميل العميق، ويأبى دعاة الفرقة والانفصال من فراخ العتمة إلا أن يوقدوا نارا لا وقود لها إلا في قلوبهم المريضة بأسماء متعددة وألوان متباعدة ولواءات متباينة.. وتبقى سنة الله هي الغالبة سنة ذهاب الزبد جفاء ومكوث ماينفع الناس في الأرض ورحمك الله يا أمي فقد كان لي في موتك عظات، كان أكبرها أن الإنسان خلق ضعيفا، وأن نعمة الصحة لا تقدر بثمن، وأن نعمة الأرجل الصحيحة ليس لها مقابل إلا شكرها بالخروج في سبيل الله إلى الناس وإحياء جهد الرسول صلى الله عليه وسلم وجهاده في الدعوة لاستنقاذ الأمة من أغلال الأهواء والضلالات والتيه الأعمى إلى أنوار الرحمة والهداية.. {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمومنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون}.