السادة العلماء والباحثون الأفاضل بابتهاج وإكبار، واعتزاز وافتخار تحتضن فاس الحاضرة الدينية والعلمية والثقافية للمملكة المغربية، مدينة العلماء والفقهاء والمحدثين وأعلام الفكر “المؤتمر العالمي الأول للباحثين في السيرة النبوية” وحق لفاس/القرويين أن تفخر بهذا الملتقى العلمي الثقافي المتميز، وتشرف باستضافة هذه الصفوة من علماء هذه الأمة القائمين على شؤون دينها، العدول الذين ينفون عنه الزوائد ويكشفون عن طاقاته وإمكاناته لتفعل فعلها في هداية الأمة ولم شتاتها وتوحيد صفها، إنهم الطائفة التي قبلت هُدى الله وعلم النبوة فانتفعت به ونفعت، كما تقبل الأرض الطيبة الغيث فتنبت الكلأ والعشب الكثير كما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه. وإذا كان من سنن الله في الأرض أن توالي السنين وطوارئ الأمراض والعوارض، مما يصيب الصحة الجسدية للإنسان بالوهن والعلل، فإن هذه السنة تنسحب على تراث الأمة وأنساقها الفكرية مع توالي السنين والعلل الذاتية، فتصاب الأمة بالغبش والإضلالات التي تحجب عنها صفاء الدين ونضارته، ويفل من عزمها ويقلل من فاعليتها، فيبعث الله تعالى من يتداركها بالتجديد ويبعد عنها الصدأ والأدران، وأمراض التقصير والغلو، وتلك مهمة علماء هذه الأمة ورثة الأنبياء ومصابيح الهداية والإرشاد، وهذا الملتقى العلمي الذي يمثل نموذجا حيا للصفوة التي تشربت مواريث الأمة وهديها القرآني وبلاغها النبوي سيثمر بحول الله عطاء جديدا ويبعث في السيرة النبوية روحا جديدة منهاجا وعلما يعيدنا لمنابع الوحي وينعش ذاكرة الأمة ويحفظ لها خيوط تواصلها الحضاري والثقافي مع تراثها الديني النبوي بعقل معاصر، وفكر مستنير، ونظرة نافدة لنسترشد ونهتدي به ويكون زادا وعونا للقيادة الفكرية الإسلامية في صياغة مشروعها الحضاري القائم الآن في عالمنا الإسلامي على قدم وساق، وأكثر من أي وقت مضى. السادة العلماء والباحثون الأفاضل إن هذا المنحى الذي نريده لهذا الملتقى المبارك الذي يضم خيرة من العلماء والباحثين في السيرة النبوية واستحضار جهود الأمة من علمائها ومحدثيها في خدمتها، والذي يلتئم في مدينة فاس التي نشأ بها أول مجلس علمي منذ قرن من الزمان. يعني أن هذا المحفل العلمي لا يجتمع استجابة لنوازع دفينة أو حنينا إلى الماضي، ولكن الاجتماع اليوم، وفي ظل التحولات والتطورات والحراك الإسلامي الذي تعيشه الأمة، والمشكلات والقضايا التي تواجهها من مثل تجديد التراث، واسترجاع مقومات الهوية والتجاذب القائم حول مرجعية مشروع الأمة بين الإسلاميين الملتزمين بالإسلام فكرا ومنهاجا وحركة، وبين الداعين بوعي أو غير وعي لاختيارات تابعة للمرجعية الحضارية الغربية مما نعتبره عمالة حضارية، كل هذا يعني أن هذا الملتقى تفرضه ضرورة حياتية ووجودية لمواكبة الصحوة الإسلامية وإمدادها بمختلف الابتداعات والتعاليم النابعة من تراثنا وسيرة نيبنا صلى الله عليه وسلم بصفتها قراءة بيانية وتطبيقية للقرآن الكيم وتجسيدا عمليا لأحكامه وقيمه، وتمتين مقاصده، حيث إن كثيرا من الآيات تفسرها وتجليها الأحداث التي مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن أنها السبيل إلى فهم شخصيته صلى الله عليه وسلم في مختلف مجالات حياته بما يكشف عن أنه قدوة لنا وللإنسانية جمعاء، ومن شأن ذلك كله أن يقارب الرؤى ويوحد المشاعر ويجنب القيادات السياسية والفكرية للأمة مزالق الخلاف وسيئات الافتراق، سبيلنا إلى ذلك إشاعة قيمة التشاور والتناصح وإبراز أهمية هذه القيمة الإسلامية التي تحفل بها سيرة مربينا ومعلمنا محمد صلى الله عليه وسلم مما كان عونا وسندا في زمن القوة والمنعة والسيادة الحضارية للأمة على وحدتها وتراص صفوفها وسيادة كلمتها. وثمة قيم أخرى ما أشد حاجة الأمة اليوم إلى إحيائها وبعثها من جديد بعدما غابت عن ثقافتنا الدينية وطويت في متاحف التاريخ على الرغم من أن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأحاديثه طافحة بها، إنها قيم الحرية والمساواة والعدل وحقوق الإنسان وغيرها من القيم الثاوية في تراثنا، والتي من كثرة ما غابت عن حياتنا حسبها الحداثيون والمغتربون من أمتنا قيما كونية وحقوقا إنسانية ابتدعها الغرب وأثمرتها بيئاته وأن حضارته هي التي ابتكرتها وأشاعت أنوارها بين العالم والناس، بينما هي تُأويه في تراثنا الديني وخطابنا الإسلامي وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مما يقتضي الكشف عنها والتأصيل لها وإبرازها في السيرة النبوية، وتبيان مدى أهميتها في تكوين الشخصية الإسلامية، وإعادة بناء الأمة على أسس من القيم والمرتكزات الثابتة، مما يعيد للسيرة النبوية مصدريتها للمعرفة والحضارة والثقافة الإسلامية، ولعل السبيل إلى ذلك ابتداع مناهج سليمة تزاوج بين التاريخية والحديثة، والاستفادة من الدراسات العلمية ومختلف حقول المعرفة في مناهج البحث في السيرة النبوية وفي تناسق بين أصحاب العلوم الشرعية، والعلوم الحديثة بما يحقق التكامل المعرفي والتوازن الكلي، ويثمر استنتاجات وإشراقات جديدة تخدم مسيرة أمتنا الإسلامية في الإحياء والترشيد والتجديد، والأمل معقود بحول الله على هذا المؤتمر أن ينير شموعا من ضياء ويزيح أستارا من ظلام. ومرة أخرى باسم المجلس العلمي وعلماء فاس وساكنتها أجدد الترحاب بالضيوف الكرام، وأعرب عن فائق تقدير المجلس وشكره للجهات المنظمة لهذا المؤتمر، متمنيا للسادة العلماء والباحثين إقامة هنيئة وراحة وضيافة تليق بأهل العلم والعلماء. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.