تسيرسفينة المجتمع بنورين: نور الدين ونورالعقل، وإذا كان الدين يوفر منهج السير ويحدد أحكامه الهادية ومعاييره الضابطة وحدوده الرادعة، فإن العقل يمثل وسيلة الفهم والتفاعل المنتج مع مفردات ذلك المنهج وحقائقه وقضاياه، ومن المفيد والخير للإنسان أن يدرك في هذا السياق، أن العقل في علاقته بالدين، هو أشبه ما يكون بالعين المبصرة في علاقتها بضياء الشمس، إذ لا يتأتى للعين الإبصار في غياب ذلك الضياء. ويتأكد هذا الأمر على وجه الخصوص فيما له علاقة بمجال الغيبيات، وما هو في حكمها، مما لا يدرك العقل حكمته، من سنن العمران البشري، مما قد يتوهم الإنسان قدرته على الخوض فيه، وهو في مأمن من الزيغ والضلال، والحال أنه يقحم نفسه، إن هو فعل، في ما لا قبل له به.
وكل ما يعتري السفينة من اختلالات، في شتى الميادين والمجالات، في المجتمعات المسماة إسلامية، إنما مرده في أغلب الأحيان إلى أحد أمرين: إما مخالفة لأوامر الإسلام وأحكامه ونظمه، وتفلت من قيمه وآدابه، على وجه العمد والعصيان، وإما سوء فهم وتمثل وإدراك لكل ذلك، والأصل في كلا الأمرين هو اتباع الهوى.
ونحن إذا ما تأملنا حال سفينة الأمة في جميع مرابعها، رجعنا بحكم يقيني لا يقبل الرد، إلا من مكابر يركب هواه، مفاده أن الذي يحكم أمر السفينة ويمسك بمقاليدها إنما هو الهوى. ويتجلى هذا السلطان الغاشم للهوى في كل منحى من المناحي وشأن من الشؤون: في السياسة والاقتصاد، وفي الاجتماع والثقافة، وفي التربية والتعليم، وفي الأدب والفن، وهلم جرا.
ففي السياسة استحكام للغوغائية والديمواغوجية، وللمكيافيلية التي تقوم على الاعتقاد المقيت بأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان ـ وأعجب بها من أخوة ـ فلا استغراب لأفعال المخاتلة والمكر والخداع ، والافتراس، كلما حانت لذلك فرصة، لأن كل ذلك هو مقتضى شريعة الغاب، التي هي شريعة الذئاب. أما ما يقدم بين يدي ذلك من شعارات فيها رائحة المبادئ ونغمة الإنسانية، فهو لا يعدو أن يكون جزءا من صميم تلك الفلسفة القائمة على النصب والاحتيال.
وفي الاقتصاد غش وتدليس وامتصاص للدماء، وأكل لأموال الناس بالباطل، طلبا لإشباع البطون المنتفخة بالسحت، والصناديق الملغومة بالقطران والزفت، وكل ذلك تحت غطاء ساحر رنان من الإشهار الدائب الذي يدمن على طرق النفوس المكدودة والعقول الخاوية، بغية إسقاط أصحابها في مستنقع الربا العفن، وجرهم بسلاسل الاستعباد، إلى حيث النكد والعذاب، في مملكة يحكمها الأخطبوط الشيطاني، ويتربع على عرشها عباد العجل الذهبي.
وفي الاجتماع والثقافة تغييب للذاكرة، وتلويث للمواريث الحضارية، وتزييف للوعي بالتاريخ، وطمس للمفاهيم والقيم، بحيث يفضي كل ذلك ـ لا محالة ـ إلى تدجين النفوس وتمييع الأخلاق، فنكون أمام شخصيات هشة وقابلة للتخدير والذوبان، باعتبار ما يعتريه من ذهول وانكسار.
وفي التربية والتعليم غسل للأدمغة وطمس للفطرة، وتشويه للآدمية، وقلب للمفاهيم، واغتصاب للطفولة البريئة، وصناعة رديئة للحشود، ثم دمغ لهذا الاغتيال المعنوي والهدم الروحي لبنيان الله، بالقتل المادي الجسدي عن طريق سلاح العصاب والاكتئاب، وزرع السموم الناقعة في ذلك البنيان المسالم الوديع.
وفي الأدب والفن صناعة للنماذج الشيطانية، وللأبطال المزورين، وإحلالهم في نفوس الناشئة محل نماذج الرجولة والوفاء، وشحن للعواطف الهوجاء، وتأجيج للغرائز وتفجير لصنبور الشهوات، وإتلاف لكوابح العقل، وتعطيل لوازع التقوى، وزعزعة لليقين في المثل العليا الداعية إلى الإيمان والرشد والصدق والعفاف، وإيثار ما عند الله جل جلاله.
ويشكل الإعلام المجرى الهادر الذي تعبر فيه كل تلك التيارات الرهيبة الجارفة، فهو يمثل بهذا الاعتبار ملتقى الشرور، ووسيلة لشحذ الأهواء، والجمع فيما بينها في تركيب خطير يسحق النفوس الضعيفة ويجرفها إلى مجاهل العدمية والاستلاب والضياع.
وإذا كان لا بد من مثال، فليكن من عالم السياسة التي تعرف صراعا مريرا في خضم الربيع العربي، يتجلى فيه إصرار أصحاب الأهواء، أو عبيد الهوى على ضمان استمرارية تحكم الهوى الشيطاني في مجرى تدبير دواليب السياسة الإقليمي منها والعالمي، بحيث تبقى هذه تحت قبضة الماسون، يصرفونها كيفما يشاؤون، ضمن لعبة الأمم القذرة التي صمموا قواعدها وأحكموا فصولها، وبسطوا سيطرتهم على أجهزتها ومؤسساتها بكل إحكام، في ظل الخضوع والإحجام.
ولسان حال أصحاب الأهواء هو: فلتذهب الديموقراطية إلى الجحيم، إذا كانت مجرياتها تتجه قدما نحو الإطاحة بسلطان الهوى من عرشه، وإحلال ـ محله ـ سلطان الدين والعقل، وما يرتبط بهما من قيم سامية تحفظ للإنسان جدارته وللإنسانية كرامتها وبهاءها. لعل من الأمثلة الشاخصة والملموسة بين أيدينا في هذه الأيام العصيبة، مثال مصر الشماء، التي تجالد السفهاء من أصحاب الأهواء، التي يريدونها فوضى كاسحة، تندفع بكل عنف ورعونة إلى تبديد الرصيد الذي أراده الأحرار رصيد عزة وإباء، بينما يبغيها عوجا هؤلاء البلهاء الأشقياء.
وصدق الله القائل: {أرايت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} والقائل سبحانه: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون}.