الشطر الثاني من الآية : {… وهذا كتاب…} وعدنا في آخر الحلقة الماضية (المحجة عدد 388) بأنّنا سنُنْهِي الحديث عن الشطر الثاني من الآية الكريمة {ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين}(الأحقاف : 12)، ذلك أنه سبق أن ناقشنا الشطر الأول من هذه الآية في سياق المقارنة بين الكتابين “كتاب موسى” و”القرآن الكريم” المشار إليه بكلمة ((هذا) إلى شطرين. وبيّنّا المقصود بالإمامة والرحمة اللتين اتصف بهما كتاب موسى الذي كان من قبل، والآن ننتقل إلى الشطر الثاني من هذه الآية لنُبْرز الأوصاف التي يمكن أن يكون القرآن متميزاً بها انطلاقا من دلالات أبنية الكلمات التي تحدد أوصافه، وذلك ما يتجلى في قوله تعالى : {وهذا، كتابٌ مصدّق، لسانا عربيا} فباستثناء كلمة ((كتاب) التي تتساوى الرسالتان في التسمية بها، نقف عند دلالات بقية كلمات الشطر الثاني من الآية لنرى ماذا يمكن أن تحمله من دلالات الأوصاف المميزة للقرآن الكريم وذلك كما يلي :
أ- هذا : يسمون هذه الكلمة اسم اشارة، وفيها يقول ابن يعيش : ((فذا اشارة إلى القريب بتجردها من قرينة تدل على البُعد، وكانت على بَابِها من إفادة قُرب المشار إليه، لأن حقيقة الإشارة : الإيماء إلى حاضر بجارحة أو ما يقُوم مقام الجارحة… وتدخل “ها” التنبيه على أوائلها (أي أسماء الإشارة، ومنها “ذا”).. ويتابع كلامه بهذا الخصوص فيقول : اعلم أن كلمة “ها” كلمة تنبيه وهي على حرفين كَلاَ، وَمَا، فإذا أرادوا تعظيم الأمر والمبالغة في إيضاح المقصود جمعوا بين التنبيه والإشارة وقالوا : “هذا” و”هذه” و”هاته”)(1).
هذا واسم الإشارة بصفة عامة معرفة من بين المعارف التي تحتل الصدارة، وفي هذا يقول ابن يعيش ((اعلم أنّ المعارف وإن اشتركت في أصل التعريف فهي تتفاوت في ذلك. “فبعضها أعرف” فكُلّما كان الاسم أخص كان أعرف… فقال قوم : أعرف المعارف المضمر، ثم الاسم العَلَم، ثم المبهم..)(ويعني بالمبهم اسم الاشارة واسم الموصول)(2). هكذا يتضح من دلالة اسم الإشارة في الآية {وهذا كتاب} أن المتحدث عنه حاضر (اعتباريا)، وقريب من المخاطبين بشكل عظيم إلى درجة المبالغة في قربه وتعظيمه وهذا أمر لا يحتاج إلى نقاش لأن الكلمة التي عبّر بها عنه “هذا” تحتل الصدارة في مجال المعارف على الأصح وهي الدرجة الثالثة كما هو مبين في النص الذي أوردناه لابن يعيش أعلاه. وعليه بهذه الاعتبارات الدلالية التي لهذه الكلمة “هذا” ينبغي أن توخذ بعين الاعتبار في مجال المقارنة بين الكتابين في الآية {ومن قبله كتاب موسى… وهذا كتاب…}الآية. ذلك أن الرسالتين المعبر عنها باسم واحد متساويتان في التسمية “كتاب” لكن الأولى مضافة {كتاب موسى} وبما أن المضاف إليه “موسى) معرفة فإن المضاف “كتاب” معرفة أيضا لأن الإضافة هنا معنوية وهي التي تفيد “المضاف تعريفا إذا كان المضاف إليه معرفة (كما هو الحال في هذه الإضافة : كتاب موسى) نحو هذا كتاب سليم، وتخصيصا إذا كان المضاف إليه نكرة مثل هذا كتاب نحو…)(3).
وثمة جانب آخر لغوي يمكن أن يوظف في المقارنة بين الكتابين، وهو أن كل واحد منهما معرفة، وعليه ينبغي البحث عن مرجح أسبقية إحداهما عن الأخرى على سلم المعارف ذلك أن “كتاب موسى” معرف بالإضافة وعليه فهو في أصله نكرة “كتاب” لو لم يضف، وعليه فدرجة المضاف في ترتيب المعارف حسب ما أضيف إليه. وفي هذا يقول ابن يعيش : ((وأما المضاف فيعتبر أمره بما أضيف إليه، فحكم المضاف حكم المضاف إليه، فما أضيف إلى المضمر أعرف مما أضيف إلى العَلَم، وما أضيف إلى العلم أعرف مما أضيف إلى المبهم، وما أضيف إلى المبهم أعرف مما أضيف إلى ما فيه الألف واللام…)(4). وعلى هذا الأساس يمكن أن نرتب {كتاب موسى} بحسب ما أضيف إليه وهو الاسم العلم وهي الرتبة الثانية كما هو وارد في النصين أعلاه.
وهذا يوهم بأن “كتاب” في قوله تعالى {كتاب موسى} أعرف من قوله في {وهذا كتاب} وهو حكم غير مسلم، ذلك أن اسم “كتاب” في قوله {كتاب موسى} معرف بالفرعية أي أن هذا الاسم في أصله نكرة، ولم يكتسب صفة التعريف إلا بعد إضافته إلى المعرفة “موسى” وفي هذا السياق يقول الكفوي : {وتعريف النكرة إمّا بالإضافة كبني آدم وبني تميم، أو باللام كالرجل والنساء أو بالإشارة كهذه وهذا…)(5). أما تعريف ((هذا الاسم في قوله : {وهذا كتاب} فهو معرف باسم الاشارة الذي يدل على الحضور والمبالغة كما سبق شرحه في صدر هذه المقالة، وهذا ما يرجح أن اسم كتاب الثاني أعرف من كتاب الأول، هذا من حيث ترتيب الاسمين على سلم المعارف، وقد سبق القول بأن الاسم كلما كان أخص كان أعرف) وهذا قد يثير شيئا من الشك والتساؤل بخصوص ما سلمنا به من كون الاسم الثاني “كتاب” في هذه الآية أعرف من الأول. ولأجل إزالة هذا الغبش نورد الفرق في كيفية إدراك التعريف باسم الإشارة وغيره من المعارف. وفي هذا السياق يقول ابن يعيش بعد ذكره خصائص أسماء الإشارة ((ومعنى التعريف فيه (أي كاف الخطاب بعد اسم الإشارة) أن يختص واحداً ليعرفه المخاطب بحاسة البصر، وغيره من المعارف يختص واحداً ليعرفه بالقلب….)(6) والفرق شاسع بين ما يمكن إدراكه بحاسة البصر وبين ما لا يدرك إلا بالقلب. ولكل من أداتي التعريف هنا دورها الوظيفي في توجيه دلالة الاسم المعرف “كتاب”، فالإضافة هنا قيدت وظيفة هذا الاسم “كتاب” بظرف زمني معين، وهو زمن موسى عليه السلام، وكأن دلالة التنكير التي قد تفيد العموم قد انحصرت بالاسم المضاف إليه ولذا صارت وظيفة الاسم المضاف “كتاب” هنا منحصرة في زمن معين، وهذا يشعر أيضا بانتهاء وظيفتها المستقلة.
أما هذا الاسم “كتاب” في الشطر الثاني من هذه الآية {وهذا كتاب} فهو محتفظ بتنكيره لفظاً “كتابٌ”. ونعود مرة أخرى إلى المقارنة بين الكتابين بناء على ما أثبتناه لكل منهما من سمات التقعيد (قاعدة الإضافة وقاعدة الإشارة)، فالرسالتان -كما سبق- متساويتان في التسمية “كتاب” لكن الأولى مقيدة بالإضافة.. ويستفاد من هذا التقييد اللغوي “بالإضافة” :
أ- أن رسالة موسى عليه السلام خاصة بأهل زمانه في حين أن الرسالة الثانية “كتاب بعد اسم الاشارة هذا” مطلقة بدليل تنكيرها “كتابٌ”.
ب- ويستفاد من هذا الاطلاق “اللغوي” الذي يفيده التنكير أن مضمونها عام ولا يزال ساري المفعول فهو عام لتنكيره، ولا يزال لأن العبارة لا تتضمن تقييده بزمن معين. وعليه نورد بعض أوجه دلالة النكرة لعلنا نجد من بينها ما يؤيد الفهم الذي نراه في هذه الآية. يقول الكفوي : ((النكرة : هي ما لا يدل إلا على مفهوم من غير دلالة على تمييزه وحضوره، وتعيين ما هيته من بين الماهيات، وإن كان تعقله لا ينفك عن ذلك، لكن فرق بين حصول الشيء وملاحظته، وحضور الشيء واعتبار حضوره. وهي إذا كانت في سياق النفي مبنية مع (لا) على الفتح مثل : (لا رجل في الدار)، أو مقترنة بـ(من) ظاهرة مثل (ما من رجلٍ في الدار)، أو كانت من النكرات المخصوصة بالنفي كـ(أحد) دلت على العموم نصّاً. وفي غير هذه المواضع تدل على العموم ظاهراً… والنكرة في الإثبات للبعضية إلا إذا وصفت بصفة عامة، فحينئذ تعم بعموم الصفة كقوله تعالى {ليبلوكم أيكم أحسن عملا}(هود : 7، والملك : 2))(7). نقف عند بعض معالم دلالات النكرة هنا تجنبا لإطالة وبذل مجهود فكري أكثر، لنربط بينها وبين المثال الذي نحاول ضبط دلالته “كتاب” في قوله {وهذا كتاب} وهذه المعالم هي قول الكفوي في النص أعلاه ((وفي غير هذه المواضع تدل على العموم ظاهرا…) وقوله ((والنكرة في الإثبات للبعضية إلا إذا وصفت بصفة عامة فحينئذ تعم بعموم الصفة..) وهذا -والله أعلم- ما ينطبق على دلالة كتاب في قوله تعالى : {وهذا كتاب} فالدلالة على العموم حاضرة ولو ظاهراً، وهذه النكرة “كتاب” مثبتة أي أنها غير مسبوقة بنفي كما رأينا في المثال أعلاه (لا رجل في الدار)، وهي في الوقت نفسه موصوفة بـ”مصدق” وهي صفة عامة حسب ما يبدو، وعليه فدلالتها أي دلالة هذه النكرة “كتاب” عامة بعموم الصفة وهذا ما يتطابق مع تعريف النكرة كما أورده الكفوي في صدر النص أعلاه وهو قوله ((هي مالا يدل إلا على مفهوم من غير دلالة على تمييزه وحضوره..). وقد ذكر الزركشي أن من بين وظائف النكرة الدلالية : ((إرادة النوع كقوله تعالى : {هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب}(ص : 59))(8). وعليه فالكتاب المذكور هنا في قوله تعالى : {وهذا كتاب} نوع خاص من بين الكتب المنزلة من عند الله على رسله لهداية الإنسانية إلى الطريق المستقيم.
-يتبع-
د. الـحـسـيـن گـنـوان
—
1- ش م 136/3.
2- ش م 87/3.
3- القواعد الأساسية للهاشمي 254.
4- ش م 87/5.
5- الكليات 896.
6- ش م 86/5.
7- الكليات 894.
8- البرهان في علوم القرآن 107/4.
< المراجع :
- شرح المفصل لابن يعيش.
- القواعد الأساسية للغة العربية أحمد الهاشمي.
- الكليات لاي البقاء الكفوي.
- البرهان في علوم القرآن للزركشي.