العمامـة والمشنقـة الرجات التي هزت العالم هزاً عنيفا في بدايات القرن العشرين كثيرة، ولعل أشدها حركة مصطفى كمال أتاتورك، تلك التي أودت- لأول مرة في تاريخ الإسلام- بمسمّى الخلافة. نال انقلاب 1924 الاسم والمسمى معا، وكانت تجليات ذلك الانقلاب متعددة، وحسبنا أن نعرف أن من أهدافه محو ذاكرة تركيا، وقطع الصلة بينها وبين تراثها، وذلك بإلغاء الحروف العربية، وإحلال الحروف اللاتينية مكانها، لكتابة اللغة التركية. لم يمر جيل واحد حتى كان من المتعذر على الأتراك أن يقرؤوا تراثهم المكتوب بالحرف العربي. وكانت الحرب قائمة بلا هوادة ضد كل ما يمت بصلة إلى عقيدة الشعب التركي وحضارته، ولم تكن الحرب على اللباس هينة، إذا كان اللباس رمزاً من رموز الهوية التركية. في عدد من الدول الإسلامية قامت معركة سميت باسم ” معركة الحجاب” ، وكان المستهدف منها هو لباس المرأة الشرعي. أما في تركيا الكمالية فلم تكن المعركة، معركة اللباس، وقفا على النساء، بل لقد كان حظ لباس الرجال من تلك المعركة عظيما.
لقد كان انقلاب أتاتورك يهدف إلى جعل تركيا قطعة من أوربا، وطمس كل ما يجعلها جزءا من عالم الشرق. وكان من المستحيل أن يتم ذلك دون أن يغير الشعب التركي لباسه الشرقي، ويستبدل به لباساً غربيا يجعله جديرا بالانتماء إلى عالم الحداثة، ومن هنا اندلعت شرارة الحرب بين القبعة والعمامة. لقد أصر أتاتورك على فرض القبعة حتى على الأئمة وعلماء الدين.
وليتبين لنا أن اللباس جوهر وليس عرضاً يجب أن نستحضر كيف تشبث عدد من علماء تركيا بعمائمهم حتى وهم يرون أتاتورك وجنوده ينصبون المشانق للعمائم… كانت المشانق تنصب في كل مكان من تركيا، فتتدلى العمائم واللحى… لقد سعى أتاتورك إلى تغيير كل شيء… حتى الدين… ولما لم يكن من الممكن اقتلاع الدين من النفوس، توجه جنوده إلى محاربة كل مظهر من مظاهر الإسلام، حتى لقد صار الأذان يرتفع من المآذن باللغة التركية، بدلاً من اللغة العربية، رغم أن ذلك الأذان كان مضحكا، كما حدثني بعض الأتراك، حيث لم يكن في اللغة التركية ما يدل على الإله بصيغة المفرد، فكان المؤذن يقول، وهو يترجم الأذان إلى التركية: ((أشهد ألا آلهة إلا الآلهة! ) وظل ذلك العبث قائما إلى زمن عدنان مندريس رحمه الله، الرئيس الذي أعاد الأذان بالعربية إلى مآذن تركيا، ولكنه دفع في سبيل ذلك حياته ثمنا… وكما تمسك الشعب التركي بدينه وعقيدته، تمسك علماؤه بلباسهم الذي كان شعاراً للإسلام، لم تثنهم المشانق عن ذلك…ثم انتهى الأمر إلى أن يوضع بجانب المحراب جبة وعمامة، فإذا تقدم الإمام إلى الصلاة لبسهما وأم ّالناس، فإذا فرغ من صلاته أعادهما إلى مكانهما. ولا يمكن للإمام أن يصلي حاسر الرأس أبدا، ويتبعه في ذلك معظم المصلين، ولعل لاتباع المذهب الحنفي يدا في ذلك(ü). إن الضجة التي أحدثها دخول النائبة مروة قاوقجي البرلمان التركي وهي بلباسها الشرعيّ قد أعاد إلى الأذهان أصل المعركة في تركيا العصر الحديث. لقد احتل اللباس في تركيا الكمالية منزلة أساسية حيث كان من أهم مظاهر الثورة الكمالية: ثورة القبعة. وسأبيح لنفسي هنا أن أعطي القوس باريها بأن أنقل فقرات في الموضوع من كتاب (الرجل الصنم)، وهذا الكتاب وإن كان مؤلفه قد اكتفى -لأسباب أمنية- بأن يشير إلى نفسه بأنه (ضابط تركي سابق) إلا أنه كان يوثق كلامه بالرجوع إلى مراجع لا يلقى الشك إلى صحتها ومنها مذكرات رضا نور، هذه المذكرات التي ظلت زمنا طويلا محظورة إلى أن رفع عنها الحظر في السنوات الأخيرة، وسبب الحظر أن هذه المذكرات تنقل شهادة حية عن أتاتورك وثورته الانقلابية، باعتبار رضا نور ممن كان من المقربين إلى رجال الثورة وزعيمهم مصطفى كمال، وهذا يجعلنا نطمئن إلى ما جاء في كتاب الرجل الصنم. يقول صاحب الكتاب في فصل عنوانه: القبعة. ((إن الكفار قادمون… سيجبرونكم على لبس القبعة وسيدوسون على القرآن وسيعتدون على أعراض زوجاتكم وأمهاتكم وبناتكم). والحقيقة أن مصطفى كمال لم يأت إلى قيادة الحركة في الأناضول إلا لتنفيذ هذه الشناعات التي لا يفعلها أي عدو بل لا يستطيع أن يفعلها.
إذ هو الذي فرض لبس القبعة وداس على القرآن واعتدى على عرض المرأة التركية وبناتها- اللائي كن يدعين بـ ((ساكنات الخدر) كما أشاع فيهن فكرة بذل شرفهن وأعراضهن. بدأ هذا السلوك بثورة القبعة. ويشرح رضا نور هذه الناحية وكيف أنه لا بأس أبدا من الناحية الدينية من لبس القبعة وأن قلنسوات كثير من القادة الأتراك مثل ((محمد الفاتح) وغيره يمكن اعتبارها قبعات وأنه هو الذي طرح هذه الفكرة قبل مصطفى كمال فإن له نصيبا في هذا الأمر. (… كان هذا بعد إصدار قانون ((إقرار السكون) وكان مصطفى كمال منطلقا في ملذاته بدون قيد، وفي أحد الأيام خرج مصطفى كمال في إحدى جولاته لابسا القبعة…وقد خطر هذا بباله في ((قاصطموني)… إذ سن قانونا حرم بموجبه لبس الطربوش وبدله بالقبعة… إن أول من لبس القبعة كان أحد رجال الدين وكان مفتياً وهو المفتي ((حسن فهمي) الملقب بـ ((ذو اللحية الحمراء…) ( حياتي وذكرياتي ص: 1313- 1314). وأضيف هنا إحدى ذكرياتي حول اقتراح أحد النواب المتصوفين:: إذ جاء هذا إلى رئيس الوزراء قائلا له: ((يا باشا إن الغازي أمرنا فلبسنا القبعة، ولكن ألا يكون من المستحسن أن نضع إشارة الهلال والنجمة هنا؟ وأشار إلى طرف القبعة). إن تناول الطعام غير هضمه، وقد استغرق قبول القبعة والتعود عليها وقتا أكبر من مجرد لبسها…كان سكان الأزقة غير متعودين إلا على القبعة الاعتيادية، لذلك فإنهم عندما شاهدونا ولأول مرة بالقبعات الأسطوانية فإنهم أخذوا يمشون وراءنا هازئين، وسمعنا كلمات: ((يا كفار) من وراء النوافذ… يقول جواد دورسون أوغلو في جريدة (هالكجي) في 10/11/1954: (كان الأفندي- يقصد رئيس الشؤون الدينية- قد أظهر تفهما كبيرا. فقد نزع عمامته ذات الطربوش وحيا الغازي حاسر الرأس، وقد سرّ الغازي لهذه الالتفاتة سرورا كبيرا فأخذه إلى سيارته، ودخل المدينة وعلى رأسه القبعة وبجانبه رفعت أفندي وهو حاسر الرأس). وجواد دورسون أوغلو هذا…كان معروفا بعدائه الشديد للدين، وهو معروف بجوابه المشهور لطفله، عندما سأله الطفل مندهشا وهو يرى في أحد الأزقة رجل دين على رأسه طربوش ملفوف بعمامة:
- ما هذا يا بابا؟ !
- يا بنيّ…هذا قس الأتراك. وبينما كان بعض الرجعيين وبعض ناقصي الإيمان ينحنون أمام مصطفى كمال حتى الأرض كانت مدن ((ريزا) و ((وماراش) و((سيواش) و ((أرضروم) تشهد تمردات، وكانت الطرادة ((حميدية) تتوجه إلى ((ريز) لتقصفها- وذلك قبل تشكيل محاكم الاستقلال- وكانت أعواد المشانق تملأ ميادين المدن الأخرى وكأنها المراجيح في أماكن الأعياد… وقد تناقلت الأفواه الجواب الذي أجابه أحد رجال الدين في (ماراش) عندما دعي وهو تحت ظل أعواد المشنقة أن يصرح بأن القبعة ليست حراما، إذ قال: ((إن القبعة من علامات الكفر، إن لبسها كفر، وأنا أحمد الله بأنني أموت وأنا لم ألبسها ). ويروي أحد المسنين المنظر كما رآه: ((كنت أمر من الميدان الذي كان يتدلى فيه المشنوقون…. لم يكن هناك أحد باستثناء بعض الجندرمة…. بدأت الريح تهب…ولا أستطيع أن أنسى منظر اللحى البيضاء على الوجوه الميتة وهي ترف مع الريح). ويظهر رضا نور في صفحة 1917 من كتابه بأنه قد غير فجأة اتجاهه وفكره في قضية القبعة التي كان يؤيدها في السابق بسبب المضاعفات التي أثارتها، فهو عندما يهاجم رجال الدين يظهر وكأنه أدرك كون القبعة علامة الكفر. لذلك فإنه يعنفهم على قلة غيرتهم الدينية. (بعد إقرار قضية القبعة صادفت في أحد الأيام الشيخ رايف في المجلس فقلت له: أين أنتم أيها الشيوخ؟ ! كنتم سابقا تقيمون القيامة وتصمون كل شيء بالكفر، كان من الواجب عليكم أن ترفعوا أنتم قبل الجميع راية العصيان. ولكنكم لبستموها بكل بساطة، بل لقد ظهر من عندكم من وصف القبعة بأنها أفضل قلنسوة، وقد ظهر بأنكم أكثر الطبقات عفونة في الأمة التركية. فقال لي: أنت محق. ولم يقتصر الأمر على بعض ردود الفعل، فقد أعلن الأهالي العصيان في ((سيواس) وفي ((أرضروم) وفي أماكن أخرى متعددة، فسارع مصطفى كمال إلى تشكيل محكمة الاستقلال… حيث شُنق الكثيرون، وإن كنت لا أعرف عدد المشنوقين بالضبط. فذعر الأهالي واستسلموا وانتهى كل شيء. وقد تألمت كثيرا لأحد رجال الدين الذي لا أذكر اسمه، فهذا المسكين كان قد نشر رسالة ضد القبعة وذلك قبل صدور قانون القبعة، وقد تم نشر هذه الرسالة بموافقة من وزارة المعارف، وقد ساقوه إلى محكمة الاستقلال في أنقرة حيث قال للمحكمة: ((إنني نشرت هذه الرسالة قبل سنة واحدة من صدور هذا القانون وقد وافقت وزارة المعارف رسميا على النشر). ولكنهم لم يستمعوا له وشنقوه… يا للعجب!! مادمتم تشنقونه فلم لا تشنقون وزير المعارف الذي أعطاه الموافقة؟… وعندما أحيط عنق هذا الشيخ بحبل الإعدام وضع ((كيليج علي) (معاون كل علي، رئيس جلادي مصطفى كمال) قبعة على رأس الشيخ قائلا له: ((البس أيها الخنزير ) مع سيل من الشتائم. وقد مات المسكين على هذه الشاكلة وظلت جثته معلقة لعدة ساعات) (الرجل الصنم: تأليف ضابط تركي سابق، ترجمة: عبد الله عبد الرحمن، 1397هـ- 1977م، ص ص: 313- 323). فهل يقال بعد كل هذا إن اللباس مجرد عرض طارئ وليس بجوهر؟ —– (ü) وقد حدث لي مرة، وأنا في المسجد الجامع بدلهي، (جامع مسجد)، أن دخلت للصلاة حاسر الرأس، فإذا بعدد من المصلين يشيرون بأصابعهم إلى رؤوسهم أن ((غط رأسك)، ولما لم يكن عندي ما أغطي به رأسي تقدم أحدهم وأمدني بمنديل أضعه على رأسي حتى لا أصلي حاسر الرأس…
د. حسن الأمراني