حدث الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم لا يماثله أي حدث في التاريخ، لما صَاحَبَهُ من تدبير إنساني سديد، وإعجاز رباني فريد. ولهذا اتخذه المسلمون بداية لتقويمهم تمييزاً لهم عن الأمم الأخرى، عقيدة وتاريخا وحضارة وثقافة. ولئن كانت شعوب أخرى تعتمد التقويم القمري، فإن الأحداث التي تبتدئ بها تلك التقويمات، أو التي كانت سببا لبدايتها، كانت في مجملها أحداثاً عادية، لا ترتبط لا بنبوة ولا برسالة سماوية، فضلا عن الاختلاف في حقيقة بدايتها والتضارب حول عددها. بخلاف التقويم القمري الهجري الذي يرتبط بحدث نبوي محدد ومعروف، وبرسالة سماوية هي خاتمة الرسالات، وبإقامة دولة نموذجية، لا ترتبط لا بعرق ولا بلغة ولا بمذهب فكري بشري، وإنما ترتبط بالوحي والدعوة. ومنذ أن اعتُمِد التقويمُ الهجري، اتخذه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها التقويمَ الوحيد، واعتمدوه في كتبهم ورسائلهم وعقودهم ومعاهداتهم وتأريخهم للأحداث والوقائع، لا يضرهم من خالفهم، ولا يعكّر تحديدَ الزمان الماضي أو الحاضر أو المستقبل اختلافُ عدد أيام الشهر القمري اكتمالاً أو نقصانا، بل إن عدّهم أيّام الشهر كان يُبنى على الليالي؛ فإذا مضت مثلا سبعة أيام منه، قالوا: حدث كذا لسبع مضين، أو خلوْن، من شهر كذا (أي لسبع ليال مضين منه)، وإذا انقضى عشرون يوما مثلا، عكسوا الحساب وقالوا: حدث كذا لعشر بقين من شهر كذا، أي أنهم كانوا يبنون أيام الشهر على ثلاثين يوما، فإذا حدث غير ذلك فإنه لا يغيِّر أيَّ شيء في زمن الحدث. كان هذا شأن عامة أمة الإسلام، إلى زمن قريب جداً لا يتجاوز ستة عقود تقريبا، حيث بدأ يخالط التقويمُ المسيحي (الجريجوري) التقويمَ الهجري ويُحشر بجانبه إلى أن غَلب عليه تقريبا بشكل كامل في أغلب أقطار المسلمين، وحتى إذا ذُكر عند البعض لا يُذكَر إلا في الوثائق الرسمية، إلى درجة أن العديد من الناس لا يعرفون العدّ من الشهور القمرية إلا شهر رمضان، وشهر ذي الحجة الذي يعرف بشهر عيد الأضحى أو “العيد الكبير”.
وحتى شهر المحرم الذي تبتدئ به السنة الهجرية نادراً ما يولونه الاهتمام اللازم بسبب غلبة الضجة الإعلامية وتحيُّزها لبداية السنة الميلادية. ولعل الذي يقارن بين ما يحدث في إعلامنا المرئي في غُرة شهر مُحرم، وبين ما يحدث في مستهل السنة الميلادية يلاحظ الفرق الكبير، من حيث التغييب الشبه الكامل لكل ما يتعلق بالتقويم الهجري وبالهجرة النبوية ذاتها من أحداث تاريخية ومواقف حضارية، في مقابل التتبع الدقيق لكل ما يرتبط بأحداث السنة الميلادية، حتى ولو كان الأمر يتعلق بإشعال شهب اصطناعية. إن التقويم الهجري، القائم على التقويم القمري، يرتبط بكل جزئيات تاريخنا وحضارتنا، وقبل ذلك وبعده، بشعائرنا وشرائعنا. والمسلمون مطالبون أينما وُجدوا باعتماد هذا التقويم، ولو -وهذا أضعف الإيمان – مصحوبا بالتقويم الميلادي، كما أنهم مطالبون بتوحيد المطالع لجميع الشهور حتى تبقى أعيادنا واحدة موحدة، وشعائرنا واحدة موحدة وتاريخنا واحداً موحداً، فعدم توحيد المطالع أحد العوائق الرئيسية في عدم استعمال التقويم الهجري بشكل سلس.
د. عبد الرحيم الرحموني