مقدمة
يعيش المسلمون في مختلف الدول الإسلامية على وقع الفيلم الأمريكي الشنيع الدنيء الذي يتطاول على مقدسات الإسلام ويعطي صورة سيئة عن نبي الرحمة، ويتهجم على أشرف وأعظم إنسان بُعث لإنقاذ البشرية من الشرور والآفات والمضرات الدنيوية والأخروية، وليخرجها من الظلمات إلى النور، ويوجهها لأسباب السعادة في العاجلة والآجلة. لقد خرج المسلمون في كثير من الدول الإسلامية في مظاهرات ومسيرات من أجل التنديد والشجب لهذا الفعل الدنيء لإيصال الاستنكار للدوائر المعنية وللضغط عليها بغية التراجع عن مواقفها ومعاقبة الجناة المعتدين على المقدسات الإسلامية. وسبب هذا الخروج هو غيرتهم الدينية ومحبتهم للرسول الكريم والدفاع عنه ورد طعون الأعداء في شخصه الكريم، ونصرتهم للدين الذي جاء به، والأسئلة التي ينبغي أن تُطرح في المناسبة هي: هل هذه المظاهرات والمسيرات والاحتجاجات هي الوسائل الوحيدة للدفاع عن الرسول والانتصار لشخصه الكريم؟. ألا توجد وسائل غيرها للدفاع عن هذا الرسول الكريم وخدمة منهاجه ونصرة دينه وإيضاح صورته الناصعة وشخصيته الكاملة للعالم؟. وهل من المجدي للانتصار للشخص الكريم والرد عما أثير حوله من كذب وبهتان أن نخرج في المظاهرات وأن نردد الشعارات أياما معدودة ونقعد ونستكين بعد ذلك سنين عددا؟. وهل يعرف المسلمون رسولهم المعرفة الكاملة؟، وهل يقومون بحقوق الرسول التي يجب عليهم الوفاء بها تجاهه؟، وهل قاموا بإيضاح محجته البيضاء إلى من يجهلها ونصرة ما جاء به؟. إن توالي عمليات استهداف المسلمين في معتقداتهم وشعائرهم ومقدساتهم يجب أن تكون فرصا لمراجعة الذات الفردية والجماعية، وتقويم السلوكات والاختيارات والمناهج والمعارف والمعلومات، والتفكير في الأساليب والأعمال التي تساهم في الانتصار للرسول ونصرة دينه والرد عن مزاعم الطاعنين الحاقدين، وإظهار زيف كلامهم وبطلان اتهاماتهم وخطإ منهجهم، حتى تصبح الأمة الإسلامية هي القائدة، وتنال درجات الريادة، وتضرب للعالم أروع الأمثلة في كل مجالات الحياة.
وفي هذا المقال سنقف عند نقطتين هامتين في بناء الأمة ونصرة هذا الدين واتباع رسوله الخاتم :
أولا : اغتنام الحدث لـمعرفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته وصفاته الخَلْقية والخلقية : تجيء بعض المناسبات بلا تخطيط ولا تدبير من المسلم، ولكن يأتي بها قدر الله وصُنعُهُ لتحقق مراد الله وقدره، وما يكون لشيء في هذا الوجود أن يأتي دون علم الله وما ينبغي له، ولا شيء في هذه الدنيا يحصل عبثا ودون مراد المدبر الحكيم، نعم قد تحصل بعض الأشياء القبيحة بنية سيئة وبإخراج سيء من البعض، ولا يرى البعض منها إلا الجوانب السيئة، ويتفاعل كثير من الناس مع ظاهرها، وتغيب عنهم مقاصدها ومراميها، ولكن في الحقيقة هي من تخطيط القدرة الإلهية والفعل الرباني لحِكَم كثيرة يعلمها الله سبحانه وتعالى وحده. إن كثيرا من المسلمين اليوم في العالم غارقون في الجهل بحقيقة الأنبياء والرسل عامة، وبمحمد خاصة، وفي الحقيقة هذه فرصة مهمة لمعرفة الرسول الكريم الذي لم تعرف البشرية إنسانا أكمل منه في مكارم الأخلاق. وحدثُ الإساءة للرسول الكريم يُعتبر من أهم الفرص المواتية للاطلاع على ما تركه لنا رسولنا وقدوتنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم ومعرفتِه حق المعرفة، ونفوس الناس في غمرة هذا الحدث مستعدة ومهيأة ومشتاقة لسماع ما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وأول مرجع يُنصح به لمعرفة الرسول هو القرآن الكريم، لأن الله تعالى ذكر فيه أوصاف نبيه بإجمال، وكذلك الاستعانة بتفاسير الكتاب العزيز المتعددة. فلكي يكون وفاؤنا لهذا النبي كبيرا، ويدخل حبُّه شغاف قلوبِنا لا بد من أن نَطَّلِع على أوصافه الخَلْقِية والخُلُقية، ونكونَ على دراية ببعض جوانب حياته أو كلها، فما أَحَبَّ أحدٌ آخرَ ولم يسبق له أن رآه ولا سمِع عنه ولم تبلُغه أوصافه ولم يقرأ عنه. فالمعرفة والرؤية سبيلان للمحبة، وكلما ازدادت المعرفة بمحاسن المحبوب وتجلت أوصافه الحسنة ازداد حبه وتَوطَّدَ، والشوق إليه أتى وتَجَدَّد، والجهل به انمحى وتَبَدَّدَ، والدفاع عنه توَلَّدَ وتأكد.
إن دراسةَ كتبِ السيرة والسنة والشمائل والدلائل المصطفوية تساعدُ على الوقوف على حقيقة الرسول الكامل، والاطلاع على تفاصيل حياة نبي الرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم. وكتبُ السيرة هي التي بينَت الجوانب العملية في حياة الرسول كلها. وكتب السنة هي التي جمعت ما ثبت عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير.
وكتب الشمائل هي التي جمع أصحابُها فيها ما تعلق بصفات النبي الخِلقية والخُلقية وما يقاربها من عادات وفضائل.
وكتب الدلائل ذكر فيها أصحابها المعجزات التي ظهرت على يدي النبي الكريم مما دل على صدق نبوته ورسالته.
فهذه الكتب تُعرِّف بالنبي صلى الله عليه وسلم خَلْقا وخُلُقا، وتجمع أقواله وأفعاله وتقريراته وهمَّه وعزْمَه في السفر والحضر، وفي السلم والحرب، وفي الغضب والرضا والمنشط والمكره…… ودراسةُ سنة وسيرة وشمائل المصطفى وحفظُ شيء منها وفهمُها وتعلُّمها وتعليمُها والعملُ بها، مُتعة روحية وعقلية وتاريخية تفتح القلب وتُنعِش الروح، وتُنَوِّرُ الفؤاد وتُطمْئنُه، وتُقوي وشائج الالتِياع والوَلَهِ والولع به، وطريقٌ قصير يوصل إليه مباشرة. وأقترح في هذا المجال الكتب التالية:
رياض الصالحين، وسيرة الرسول للخضري أو فقه السيرة للبوطي، أو الرحيق المختوم للمبارك فوري، وشمائل الترمذي، و كتاب الشفا للقاضي عياض، ودلائل النبوة للإمام البيهقي. إن معرفة الرسول في حد ذاتها نصرة لدينه وخدمةٌ لجنابه الكريم وتذكيرٌ -للنفس أولا ولغيرها ثانيا- بفضله وتعريفٌ به وثناء عليه وتعظيمٌ لقدره وتقربٌ منه واكتسابٌ لمحبته وإعانة على شهود ذاته بذكره وتذَكُّر أحواله. نتذكره صلى الله عليه وسلم ونذْكُره في هذه المناسبات وفي غيرها كي تتجسد فينا تلك الشخصية النبوية النورانية سلوكا إيمانيا، وعملا جهاديا، وحتى نكتشف من خلال دراسة سيرتِه أسرارَ منهاجه في التربية والتعليم، وفي التنظيم والجهاد، مما يرفع العبد إلى مقام الإحسان، والأمة إلى حيث تنال شرف الاستخلاف في الأرض.
إن شباب اليوم يعرف كثيرا من المعلومات عن الفنانين والرياضيين والتافهين…. ويجهل كثيرا عن الرسول وحياته وسيرته وسنته وأخلاقه….
ثانيا : الحدث مناسبة للتمسك برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم والتعريف بها وتبليغها : إن موضوع الإساءة للرسل وللرسالات موضوع قديم قدم التاريخ والإنسان، فكل الأنبياء والرسل تحملوا الكثير من الإساءة والأذى من لدن أقوامهم، إلا أن ذلك لم يشغلهم عن الهدف الأسمى والغاية الكبرى التي بعثوا من أجلها، وهي الدعوة إلى الله الواحد الأحد وتبليغ ما جاءهم من عنده سبحانه. ولم يثبت أن أحدا منهم جعل شغله الشاغل موضوع الإساءة والاستهزاء به، بل كانوا يقابلون الأذى بالجهاد والدعوة والجدال بالتي هي أحسن، وحجتهم في ذلك ما أيدهم الله به من الآيات، لعل أولائك الجاحدين يدركوا الحق ويؤمنوا به.
ولقد كان الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين أن أيادي الغدر التي كانت تحاول اغتياله وقتله لتغتال باغتياله دعوة الإسلام التي بُعث لتبليغها للناس لن تصل إلى مرادها قط، لأن الله تعالى عصمه منهم لمّا قال: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ الناس}(المائدة:67)، ولأنه تعالى كفاه شرهم حينا قال لنبيه:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(البقرة: 137). وكان الرسول الكريم يعلم أن أعداءه لن ينالوا منه إلا أذى خفيفا، ومكر الماكرين وأذى الحاقدين لن يحول دون انتشار الإسلام وانتصاره، فما كان يرُد على الذين يؤذونه ويستهزئون به، وكان كل ذلك لا يشغله عن البلاغ وعن الدعوة إلى الصراط المستقيم، والجدال بالتي هي أحسن، بل كان همه الأكبر هو أن تصل دعوة الله إلى الناس جميعا ليُخرجَهم من الظلمات إلى النور، وييسر لهم سبل الهداية، وينشر الرحمة للعالمين، وكان لا يعبأ بأذاهم لأن الله كتب في سابق علمه للدعوة المحمدية النصر والتمكين، ولأنه تعالى قال لنبيه الكريم: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}(الحجر :94- 95). والذي يقرأ كتب السنة والسيرة والتاريخ يجد أنه كلما حاول أعداء الرسالة والرسول محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم أو إيذاءه أو تشويه صورته، تكون نتيجة هذا المكر الفشل الذريع والخيبة والحرمان، ويردهم الله على أدبارهم خاسرين خائبين، ويجني المسلمون منها خيرا كثيرا، فلا تزيد التصرفات الدنيئة دعوة هذا النبي إلا انتشارا وذيوعا، وبسببها تستيقظ نفوس كثير من الناس وتتحرك بعض الهمم لحمل هم هذا الدين ونشره وخدمة القائمين عليه. إن تفاعل الشارع الإسلامي ضد ما أثاره الحاقدون مؤخرا لا ينبغي أن يكون باندفاع وحماسة وتهور في أيام معدودات عابرة، وبعدها يكون الفتور والقعود والجمود سنوات وسنوات، وابتعاد عن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وإيعادٍ له عن كل مجالات الحياة، وإنما المطلوب أن تكون التعبئة الدائمة والحركة الدائبة من أجل التحقق والعلم بهذا الدين والتخلق به ونشره وتبليغ دين الله تعالى ورحمته إلى العالمين، والتعرف على تضحيات رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف الصالح في إقامة هذا الدين وتبليغه والدعوة إليه، ونشر هديه بين الناس على أوسع نطاق وبكل الوسائل، في الصحف والمجلات الورقية والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية والكتب… ورد ما يقول الخصوم بالحجة والبرهان وتسخير اللسان والقلم والمحاضرة والخطبة و… وينبغي أن يكون الرد على الأفعال بالأفعال الفعالة لا بالشعارات المرفوعة وكفى.
إن الرسول ليس في حاجة إلى من يدافع عنه لأن الله حفظ جسمه الشريف حيا وميتا، وإنما الناس هم الذين في حاجة ماسة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تمسكا بهديه واتباعا لسنته لنيل السعادة ولتحقيق الانتساب الصحيح لهذا الدين، و حماية مقومات الأمة وخصوصياتها من كل ما يحدق بها طمعا في طمسها ورمسها. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو رحمة الله تعالى المهداة للعالمين، فواجب على المسلمين أن يْنعَموا بهذه الرحمة ويفرَحوا بها، ويذكروها للناس ويذكِّروا بها، وما جاء به هو السراج المنير، فواجب على الأمة أن تستنير به في حياتها، وتستضيء بنوره في ظلمات الحياة الحالكة التي تحيط بها، قال الله جل شأنه: { يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا}( الأحزاب : 45- 46). إن الأحداث التي يُذْكر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم مناسَبة للتحدثِ عن هذا الدين والعلم به وتعليمه وتبليغه وتذكيِر الناس بواجباتهم نحو ربهم ونحو رسولهم صلى الله عليه وسلم ونحو رسالته. إن من حق المصطفى صلى الله عليه وسلم علينا أن يكون المسلمون ورثته في العلم بدين الله جل وعلا والعمل به والجهاد لإقامته وتبليغه. إننا حينما نتحدث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، نتحدث عنه باعتباره شخصاً أعدَّته العناية الإلهية ليحملَ الرسالة العالمية الخاتمة للبشرية جمعاء، ويوصل النور الإلهي إلى كل إنسان عبر الأزمان، ويبلغ رسالة ربه كي يهتدي الناس، و يَعُمَّ الدين شؤون الحياة كلها. فلا معنى لنصرته مع تعطيل العمل برسالته، وتعطيل وظيفته، وظيفة البلاغ والتبليغ، ووظيفة البشارة والنذارة. وبعد : فعلى قدر عمق حب المؤمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم يكون التمسك بسنته وسيرته وهديه، وتكون الغيرة على دينه والجهاد في سبيله ونصرة دينه، والتفاني في حبه والشوق إليه وخِدْمَةِ رسالته الخالدة خدمة فهم وعلم وعمل وبيان وتبيين.
ذ. أحمد المتوكل