وهو في الرسالات التالية :
الرسالة الأولى : في أن الحقائق المكنونة في القرآن المجيد، صادرة عن غيب مجيد، ببيان مجيد ومن ثم فإنه من المهم جدا أن لا يغفل المؤمن -وهو يتلو كتاب الله أو يتدارسه- عن أنه كلام متنزل من عالم المجد الأعلى، هناك في اللوح المحفوظ وأن به أسرارَ ذلك العالم مما بث الله فيه من حقائق ومقادير أزلية، ترسم طريق السالكين إلى الله في الأرض وأنه ما ورد عبد ربيع نورِه المجيد، إلا كان من الواصلين الماجدين في الدنيا والآخرة!
الرسالة الثانية : في أن نبأ البعث بعد الموت وخبر النشور والجزاء، هو أعظم خبر في القرآن المجيد وبذلك جاء النذير.. وعلى هذا مدار الوعد والوعيد في كتاب الله. كما أن كل قضايا القرآن العقدية، وكذا قضاياه التشريعية، سواء في العبادات أو المعاملات، كلها منوطة بالمصير الأخروي ومنضبطة إليه. ومن ثم وجب على المؤمن أن يجعله نصب عينيه في كل عمله. كما أن على الداعية أن يجعله مرجع خطابه، وحادي دعوته، سواء عند التعريف بالله وبحقوقه، أو عند الدعوة إلى التزام شرع الله فيما شرع من حقوق عباده.
الرسالة الثالثة : في أن من أهم المسالك المعرفة بالله راجعة إلى فتح نظر الروح، لمشاهدة علمه المحيط، وقدرته العظيمة، ومشاهدة هيمنتهما على كل شيء، ومعرفة جميع ما علمنا صلى الله عليه وسلم من صفاته، وأسمائه الحسنى.. وأنه ما من ذرة من ذرات الخلق البشري والكوني، إلا وهي محصاة بالكتاب الإمام، الضابط لكل شيء في السماوات والأرض، مما كان وما سيكون إلى يوم القيامة وأنه لا يقوم إيمان امرئ حتى يؤمن بذلك، لأنما هو راجع إلى الإيمان بالقدر، وهو ركن من أركان الإيمان، وأصل من أصوله الكبرى. وقد أوصى الصحابي الجليل عبادة بن الصامت رضي الله عنه ابنه بكلمات من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “من مات على غير هذا فليس مني”(1). ذلك قبس من نور قوله تعالى : {قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} وإنه لباب من أبواب العلم بالله عظيم.
الرسالة الرابعة : في أن الكفر ظلام أعمى …ذلك أن التكذيب بنبأ القرآن المجيد، والتشكيك في قدرة الله جل جلاله على الخلق والإحياء، والبعث والنشور، هو أكبر الضلال. فالكفر مهما بلغ من علم الكونيات والطبيعيات، فإنه لا يتعرض لتفسير حقائقهما المصيرية ـ بما يناقض حقائق القرآن ـ إلا ويصاب بالاضطراب والاختلال، ويدخل في متاهات الخرص، ومرج التأويل والتحليل ولن تزال نظريات الكفر والإلحاد ـ باختلاف مذاهبها واتجاهاتها ـ في أمر مريج، إلى أن تتحطم تحت أهوال القيامة.
الرسالة الخامسة : في أن النظر إلى خلق السماوات والأرض بعين الإيمان، يصقل مرآة القلب والعقل، فتستقيم معطيات البحث العلمي المادي المعاصر، وتجد راحتها في النسق الإيماني المنتظم على موازين القرآن. وإن المؤمن ليرى آنئذ بهذا المنظار القرآني النافذ، ثم بما عنده من معطيات علمية ـ ولو كانت قليلة ـ حقائق الكون منتظمة في صف الصلاة، راكعة لله وساجدة! بما يشوقه إلى الإنابة إلى ربه، ويغمره بالحنين إلى عبادته.. وإنه بذلك أيضا ليرى من عجاب الخلق ما لا يراه المتخصص العليم، المتضلع بكثير من المعادلات الدقيقة والمفاهيم الغامضة وما ذا أعجب من أن يسمع المؤمن البسيط هديل الحمام، فيقرؤه تسبيحا وتوحيدا؟ ولا يرى أو لا يُخبَر عن شيء من عجائب المخلوقات، مما كبر أو صغر، إلا شاهد موقعه من مسجد الكون الكبير.. لكن الكفر مهما تحقق به من الكشوفات والمعطيات نظر أعمى!
الرسالة السادسة : في أن الحركة الجارية في الكون هي من أهم ما ينبغي للمؤمن رصده والتفكر فيه، لأن الحركة ظاهرة الدلالة على القوة المحركة! فمشاهدة حركة الرياح، وحركة المطر، وحركة الفلك، وحركة الزمان، وحركة الشروق والغروب، وحركة الإنبات اللطيفة، وحركة النمو الخفية، سواء في الإنسان أو الحيوان أوالنبات.. إلخ، كل ذلك يكشف ـ لمن تفكر فيه ـ عن حضور التدبير الإلهي لشؤون الخلق، وأن الله جل ثناؤه لا يُهمل من مخلوقاته شيئا على الإطلاق وفي ذلك من الأنس بالله، والشعور بمعيته تعالى، ما يملأ القلب إيمانا، وطمأنينة، وسكينة، وفرحا عظيما بالله.
الرسالة السابعة : في أن دورة النبات وتقلبها بين فصولها الأربعة، وحركة المطر، والنظر في جميع مراحل الخلق والتكوين للزروع والأشجار، وما تمر به من أحوال التخلق والنمو، إلى أن تزهر وتثمر، ثم تُحصد أو تُجنى، ثم تُزرع من جديد.. وكذا مشهد الأشجار، إذ تنفض أوراقها الميتة، ثم تتبرعم بأغصانها وريقات جديدة وتتفتح بها أزهار جديدة.. إلخ، كل ذلك مهم جدا في معرفة حقيقة الإنسان، ومشاهدة تطورات مسيرته الوجودية، منذ اللحظات الأولى لخلقه، من ضعفه إلى أشده، إلى نكوصه نحو ضعفه مرة أخرى، وذبوله تماما كما تذبل الشجرة إلى لحظة موته، ثم بعثه من جديد..! فسبحان الله، والله أكبر! الرسالة الثامنة : في أن التكذيب بحقائق الإيمان جريمة تستحق عقاب الله جل جلاله وأن سنة الله الجارية في الاجتماع البشري، أنه ما من أمة تواطأت على الكفر، والتنكر لحقوق الله، إلا أذاقها الله نكدا وشقاء، هنا في الدنيا قبل الآخرة ولعذاب الآخرة أشد. عافانا الله وإياكم من عذابه وسوء عقابه.
ولا يغرنك ما عليه كثير من دول الكفر من رفاهية دنيوية، ورخاء مادي فإنما هو بريق خادع ولمعان كاذب ولو عشت معيشتهم لوجدت أنها هي الشقاء بعينه إنهم عبيد لشهواتهم، يكرعون في بحرها الآسن، يشربون ويشربون ثم لا يرتوون ثم ينتحرون وما ظنك بقوم تمردوا على الله خالقهم؟
مسلك التخلق : الخُلُق المطلوب بهذا المسلك هو التحقق باكتساب بصيرة الإيمان البصيرة المتحلية برهافة الحس، وأذواق الروح، والنظر القلبي النافذ، المشاهد لتجليات شؤون الربوبية، في خلق العالم وتدبيره، والمشاهد لتجليات الأسماء الحسنى، فيما نراه يوميا من حركة الفلك المحيط بنا، ودورات الفصول والأمطار. ويكون التحقق بهذه البصيرة خُلُقا ثابتا بإذن الله، بتدريب القلب على عمل لطيف، هو سر من أسرار الإيمان وذلك بأن يداوم المؤمن على تأمل مناظر الخلق، بعين التائب إلى الله المنيب إليه، ويشحن نظره إليها بعواطف الشوق إلى الخالق العظيم فإنه عندئذ تتحول تلك المشاهد في قلبه إلى ما يشبه الدعاء، فتتجلى عليه في لحظة الصفاء والإخلاص أسرارُها الربانية، وتبدي له من جمال الأسماء الحسنى وجلالها، ما يرقيه إلى مقام اليقين، إن شاء الله فلا يرى بعد ذلك شيئا إلا بنور الله… كذلك تُكتسب بصيرةُ الروح، وكذلك تُصقل عيون الإيمان. فالنظر المنيب هو كشاف الحقائق، وصَيْقَلُ البصائر، وذكرى القلوب. ولك أن تتدبر من جديد ما تدارسناه من قوله تعالى : {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}. فاللهم ارزقنا صفاء البصيرة، ونقاء السريرة، وطهارة القلب واجعلنا من عبادك المنيبين إليك.
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
—-
1- رواه أبو داود، والترمذي، والبيهقي في الكبرى، وابن أبي شيبة، والطبراني في الكبير، والطيالسي في مسنده. ومعناه مروي عن ابن عباس أيضا. وصححه الألباني في تحقيق سنني الترمذي وأبي داود، وفي السلسلة الصحيحة، وصحيح الجامع الصغير.